الجزء الرابع/ دراسة لأنظمة المنافسة في المنطقة العربية

التحليل والرأي - 09-12-2022

الجزء الرابع/ دراسة لأنظمة المنافسة في المنطقة العربية

اقتصادكم/ د. البزيم رشيد*

يتأثر تصميم وإنشاء وسير أنظمة المنافسة في البلدان العربية بمجموعة من العوامل الاقتصادية والمؤسسية. فإزالة العوائق أمام المنافسة، يتطلب إجراءات راسخة ومضبوطة، لتوفير الظروف الملائمة لحرية السوق بشكل مُتقَن وطبيعي. خاصة وأن المنطقة تتمتع بإمكانات هائلة وطاقات بشرية متنوعة، تشكل مصدراً للطلب الجماعي الذي يمكن أن يحرك النمو وسوق الشغل ويساهم في تحقيق الرخاء.
 
فوجود حواجز واسعة أمام الدخول للسوق والتدخل الحكومي في الاقتصاد يثبط الاستثمار الخاص ويحدّ من فرص الازدهار؛ وتؤثر التركيبة القطاعية للإنتاج والاقتصاد غير الرسمي في خلق بيئة أعمال تنافسية من عدمه. وتلعب الخصائص المؤسسية والحوكمة دورا كبيرا في نجاح تدابير وآليات سياسة المنافسة.
 
إن واقع المنافسة ليس نتاج الإطار التشريعي للمنافسة وأداء أجهزة تنظيم المنافسة فقط، بل يتأثر بالواقع الاقتصادي مما يعني أن دراسة عمل أجهزة المنافسة يستدعي فهم الظروف الواقعية والتشريعات المتعلقة بالاستثمار بصفة عامة.

تتميز الاقتصادات العربية، ولا سيما تلك التي ورثت التخطيط المركزي أو تلك التي لا تملك عادة أسواق تعمل بشكل جيد، بوجود عوائق تنظيمية واقتصادية قوية أمام الدخول للأسواق وسيرها بشكل صحيح. وترتبط الحواجز التنظيمية بالقوانين والتشريعات القائمة التي تحد من عمليات الدخول والمبادلات الاقتصادية، مثل قيود الترخيص، قواعد التجارة، والقواعد التنظيمية الأكثر عمومية، التي تؤثر في القدرة على فتح الأسواق واستغلال المقاولات الجديدة. فلقد شلَّت الممارسات البيروقراطية منذ وقت طويل روح المبادرة وأبقت الأسواق العربية محلية ومفككة ومقطوعة عن بعضها البعض. فمن خلال تحريف المنافسة، تعمل هذه الحواجز كعقبات أمام السوق الحر، وتفضل منح الامتيازات الريعية لنخب معينة للسيطرة على نقاط الوصول إلى الاقتصاد.

ويعرف تسجيل الشركات اختلافات ملحوظة في الوقت اللازم لبدء مزاولة نشاط اقتصادي. وتستغرق إجراءات بدء النشاط التجاري 15 يوما في لبنان، و11.5 يوما في مصر، في حين تحتل الإمارات العربية المرتبة الرابعة عشرة عالميا ب 4 أيام.  ويمكن تفسير هذه التباينات بالبنيات المفرطة في المركزية والتنسيق الإداري المحدود. مما قد يُغلق الأسواق أمام المستثمرين العاديين، ويشوه المنافسة ويقيد دخول أعمال جديدة. فعدد الشركات المسجلة لكل 1000 نسمة في المنطقة هو أقل من ثلث الشركات في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. حيث بلغ 0.6 للأردن والجزائر، و0.4 للمملكة العربية السعودية سنة 2016. 

وأدت عمليات الخصخصة التي تم التخطيط لها أو تنفيذها بشكل سيء، إلى تشكيل احتكارات قانونية، كما ساهمت في خلق حواجز مصطنعة أمام الدخول للسوق، من خلال منح الفاعلين المهيمنين وصولاً حصريًا إلى المدخلات الأساسية. فتم أحيانا احلال احتكارات القطاع الخاص محل احتكارات القطاع العام.

من البديهي القول إن الأصل في ممارسة النشاط الإنتاجي في الفلسفة الاقتصادية الليبرالية يقوم به القطاع الخاص، ولا تتدخل الدولة إلا إذا عجز الأفراد عن الوفاء باحتياجات المجتمع، أو قصروا في ذلك، أو مارسوا دورهم بما يؤدي إلى تكوين احتكارات. غير أن المنطقة العربية تتميز بحضور مهيمن للدولة في جميع مجالات النشاط الاقتصادي، مما يجعلها واحدة من أكثر أنظمة التجارة حماية في العالم. فعلى الرغم من انخفاض متوسط الحواجز الجمركية نتيجة للإصلاح الاقتصادي، فإن العديد من الدول، مثل الجزائر وليبيا، ما تزال تتمتع بحمائية عالية. كما أن مستويات الحمائية التجارية مرتفعة نسبيًا، حتى في البلدان التي تهدف توجهاتها لإنعاش للتصدير (تونس والمغرب ومصر). 

وعلاوة على ذلك، فشلت الإصلاحات النيوليبرالية في تفكيك أثقل الحواجز غير التعريفية والتي تكون عمومًا تقديرية وغير شفافة ولها تأثير أكثر ضررا على التجارة. تعتبر الحواجز غير الجمركية أكثر انتشارًا في الشرق الأوسط.

 تبدو الحاجة إلى قطاع خاص نشيط معترف بها على نطاق واسع، إلا أنه من غير الواضح كيف يمكن تطويره. يُنظر عادةً إلى تحدي تنمية القطاع الخاص من خلال عدسة تكنوقراطية غير سياسية ضيقة. فعندما يتعلق الأمر بالعالم العربي، فإن حدود وصفات البنك الدولي واضحة بشكل خاص في هذا الإطار. فتنمية القطاع الخاص ليست مجرد مسألة تُعنَى بتحسين مناخ الاستثمار، أو تخفيض تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، أو تقديم قروض رخيصة، أو إدخال إصلاحات اقتصادية ملائمة، بل هي أيضًا مشكلة سياسية. فأحيانا يُنظر إلى هذا القطاع بارتياب، لأنه باستطاعته توليد مصادر دخل مستقلة عن شبكات المحسوبية والزبونية التي نسجتها النخب.

إن الشفافية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمنافسة ومسار صنعها، يُسهم في بناء الثقة لدى القطاع الخاص وضمان مستويات مناسبة من الاستثمار في القطاعات التي تحتفظ الدولة بدور مهم فيها.  باستثناءات قليلة، يعتبر القطاع الخاص ضعيفًا عمومًا ويعتمد على رعاية الدولة.

كما أن انحسار القطاع الخاص الفعال هو أيضا ترجمة لفشل التكتل الإقليمي. فلا يزال العالم العربي مجزّءا في وحدات جغرافية معزولة ذات روابط اقتصادية محدودة بينها. فواقع عدم التكتل ينطوي على تكلفة باهظة، لأن حجم السوق مهم بالنسبة للنمو، فالأسواق المجزأة والمتباعدة تعيق طموح الشركات لتحقيق فوائد الإنتاج مقارنة باحتمال تغطية سوق أكبر. فالمزايا من حيث التكلفة، والتي يطلق عليها وفورات الحجم الكبير والتكتل، كانت سببا في تقدم التجارة والنمو في الاقتصادات الناشئة، لكنها غائبة في العالم العربي.

وعموما، يلاحظ بالنسبة للدول العربية وجود اختلافات كبيرة في تركيبة القطاعية للناتج المحلي الإجمالي فتحليل فئات الزراعة والخدمات والصناعة، يشير إلى أن نصيب الزراعة في دول قطر والكويت والبحرين والإمارات العربية ما بين %0 و1%، وتتراوح النسبة ما بين 1 % و10 من الناتج المحلي الإجمالي في دول واليمن والعراق والسعودية وتونس وعمان ولبنان والأردن. وتبين المعطيات التباين الكبير بين اقتصادات الأردن ولبنان وتونس التي تقوم أساسا على الخدمات، بينما تحتل الصناعة مكانة أكثر أهمية في دول مثل الكويت والعراق وقطر.

*أستاذ القانون العام

أعده بتصرف د. كنانة السعيد