اقتصادكم
تكشف معطيات الحسابات الوطنية لسنة 2024 عن صورة مركبة للاقتصاد الوطني، تجمع بين دينامية نمو مدفوعة بالاستثمار والطلب الداخلي من جهة، واتساع الحاجة إلى التمويل من جهة أخرى، ما يطرح تساؤلات حقيقية حول استدامة النموذج الاقتصادي على المدى المتوسط.
فعلى الرغم من تسجيل نمو اسمي بلغ 7,9%، فإن هذا الرقم يخفي واقعًا أكثر تواضعًا عند احتسابه بالأسعار الثابتة، حيث لم يتجاوز النمو الحقيقي 3,8%. هذا الفارق يعكس بالأساس أثر التضخم وارتفاع الأسعار، ما ينفي وجود “مفارقة” حقيقية بين النمو وارتفاع الحاجة إلى التمويل، ويؤكد أن الأداء الاقتصادي لسنة 2024 كان نمواً في القيمة أكثر منه نمواً في الحجم.
تشير البيانات إلى أن الاستثمار الوطني عرف انتعاشًا قويًا، مسجلاً نموًا يناهز 13,9%، وهو ما شكّل رافعة أساسية للنمو الاقتصادي. وقد لعبت المقاولات، المالية وغير المالية، دورًا محوريًا في هذه الدينامية، إذ ساهمت بنحو 60% من تكوين الرأسمال الثابت، مع ارتفاع استثماراتها بنسبة تقارب 19,9% مقارنة بسنة 2023.
غير أن هذه القفزة الاستثمارية، حسب الاخبير الاقتصادي رشيد الفقير، في حوار مع جريدة "فينوني نيوز" رغم أهميتها، أدت إلى انتقال عدد من القطاعات من وضعية قدرة على التمويل إلى وضعية حاجة للتمويل. فقد سجلت المقاولات حاجة تمويلية قدرها 8,2 مليارات درهم، في حين بلغت حاجيات التمويل لدى الإدارات العمومية 12,2 مليار درهم، مقابل قدرة تمويل إيجابية للأسر في حدود 10,9 مليارات درهم.
ويفسر هذا التحول، أساسًا، بتسارع وتيرة المشاريع الكبرى، سواء المرتبطة بالاستراتيجيات القطاعية، أو مشاريع البنيات التحتية، أو التحضيرات لتنظيم كأس إفريقيا للأمم وكأس العالم، ما يعكس منطقًا استثماريًا توسعيًا يفوق حاليًا قدرة الادخار الوطني على مواكبته.
إشكالية الادخار الوطني والحاجة البنيوية للتمويل
تُبرز هذه التطورات استمرار العجز البنيوي بين الادخار والاستثمار، حيث بلغ العجز الإجمالي في التمويل سنة 2024 حوالي 18,5 مليار درهم، أي ما يعادل 1,2% من الناتج الداخلي الإجمالي، مقابل 0,9% سنة 2023. ويُغطّى هذا الفارق باللجوء إلى الادخار الخارجي، ما يعيد إلى الواجهة مسألة الاعتماد على التمويلات الخارجية وما تفرضه من قيود على السياسات الاقتصادية.
ورغم أن الطلب الداخلي ظل الدعامة الأساسية للنمو، فإن هذا النمو يبقى هشًا في ظل ضعف المردودية الإنتاجية وعدم ارتفاع الادخار الوطني بنفس وتيرة الاستثمار، وهو ما قد يشكل، مستقبلاً، عنصر ضغط على التوازنات الماكرو-اقتصادية.
الدين العمومي والتمويل الداخلي: بين السيادة والمخاطر
على مستوى الدين العمومي، تواصل الدولة الاعتماد بشكل متزايد على التمويل الداخلي، الذي يمثل نحو 70% من إجمالي الدين. ويُعد هذا التوجه إيجابيًا من زاوية تقليص مخاطر الصدمات الخارجية وتعزيز السيادة المالية، غير أنه يطرح في المقابل مخاطر مزاحمة القطاع الخاص على السيولة.
فالإقبال القوي للبنوك والمستثمرين المؤسساتيين على سندات الخزينة قد يؤدي إلى ضغط متزايد على السيولة البنكية، تقييد الائتمان الموجه للمقاولات والأسر، إضعاف قدرة الاقتصاد على خلق فرص الشغل وتحفيز الاستثمار الخاص وهو ما قد يؤثر سلبًا على استدامة الطلب الداخلي، الذي يشكّل حاليًا العمود الفقري للنمو.
رغم هذه التحديات، فإن تخفيف حدة هذه الضغوط يبقى ممكنًا عبر إطالة آجال استحقاق الدين العمومي، تطوير أدوات السوق المالية وتحسين توجيه الادخار نحو القطاع الخاص (صناديق الضمان، آليات التمويل المبتكرة)، تعزيز التنسيق بين السياسات النقدية والميزانية.
إن حصيلة سنة 2024 تؤكد أن الاقتصاد الوطني دخل مرحلة نمو تقوده الاستثمارات الكبرى، غير أن نجاح هذا المسار يظل رهينًا بقدرة المنظومة الاقتصادية على تحقيق توازن مستدام بين الطموح الاستثماري، والقدرات التمويلية، وجودة الحكامة الاقتصادية.