اقتصادكم
يشهد القضاء التجاري منعطفاً حاسماً، حيث يستعيد النيابة العامة دورها الكامل كمنظم أساسي، وتتحول إلى فاعل محوري في إنقاذ المقاولات وحماية الدائنين. هذا الانخراط المتزايد للنيابة العامة يشكل تطوراً بارزاً من شأنه أن يغير بشكل عميق طريقة معالجة أوضاع المقاولات التي تعاني من صعوبات.
تشير سلمى الحساني السباعي، أستاذة جامعية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط ورئيسة الجمعية المغربية للدكاترة في القانون إلى أن ما يلاحظ اليوم هو بداية تحرك فعلي، ولو نسبي، في أداء النيابة العامة أمام المحاكم التجارية. فلفترة طويلة، ظل وكلاء النيابة في موقع المتفرج في ملفات صعوبات المقاولات، رغم أن القانون يمنحهم دوراً محورياً فيها. غير أنه خلال الأشهر الأخيرة، برز تفعيل أوضح للأدوات القانونية التي وضعها المشرع رهن إشارتهم.
وتوضح أن اختصاصات النيابة العامة واسعة جداً وتشمل مختلف مراحل مساطر صعوبات المقاولة، من الوقاية إلى التصفية، مروراً بالعقوبات. إذ يمكنها إشعار رئيس المحكمة بالصعوبات التي يتم رصدها، وطلب فتح مسطرة التسوية القضائية، والمطالبة بتغيير السنديك، وتحريك دعاوى توسيع المسطرة، أو دعاوى المسؤولية المدنية أو الجنائية أو المالية في مواجهة المسيرين، بل وحتى في مواجهة السنديك أو بعض الدائنين. كما تتوفر النيابة العامة على سلطة واسعة في الطعن بالاستئناف، ما يمكنها من التأثير الفعلي في مسار المساطر المفتوحة. وعلى المستوى النظري، فإن النيابة العامة تُعد فاعلاً أساسياً في حسن سير المساطر الجماعية.
غير أن هذه الطموحات ظلت، على مستوى الممارسة، معرقلة لفترة طويلة بسبب نوع من التحفظ أو التردد، حيث كان وكلاء النيابة يتجنبون التدخل والانخراط الكامل في ممارسة صلاحياتهم القانونية في مجال صعوبات المقاولة، ويتركون في الغالب المجال لباقي المتدخلين في المسطرة.
وتؤكد أن هذا الوضع بدأ يتغير تدريجياً، مشيرة إلى أن الدورية الأخيرة الصادرة عن الرئيس الجديد للنيابة العامة، هشام بلاوي، شكلت نقطة تحول أساسية. فقد دعت هذه الدورية بشكل واضح وكلاء النيابة إلى الانخراط الفعلي في هذا المجال، وقدمت لهم تعليمات عملية دقيقة، من بينها الحضور المنتظم في الجلسات، وتقديم ملتمسات واضحة بشأن التسوية، ومراقبة عمل السنديك، وتفعيل مساطر التوسيع، وتطبيق مقتضيات جريمة التفالس.
وترى أن المبادرات التي تم اتخاذها في بعض الملفات التي حظيت بتغطية إعلامية، مثل توسيع مسطرة التسوية لتشمل عدداً من فروع مجموعة “سيتي كلوب”، تندرج في صميم هذا التوجه الجديد، وتبعث على الأمل في حدوث تغيير حقيقي طال انتظاره في موقف النيابة العامة من قضايا صعوبات المقاولة.
وفي ما يخص أثر هذا التدخل المتزايد على حماية الدائنين في مساطر التسوية أو التصفية، تؤكد الأستاذة السباعي أن تأثيره حاسم. فلفهم ذلك، يجب العودة إلى فلسفة المساطر الجماعية نفسها. فقد تم تصميم الكتاب الخامس من مدونة التجارة ليشكل درعاً حقيقياً للمقاولة التي تعاني من صعوبات، من خلال تمكينها من نظام قانوني استثنائي يمنحها امتيازات مهمة. فبمجرد فتح مسطرة التسوية أو الإنقاذ، توضع المقاولة تحت الحماية المباشرة للمحكمة، ويُمنع الدائنون من المطالبة بأداء ديونهم، أو تفعيل الضمانات المتوفرة لديهم، أو حتى فسخ العقود الجارية إذا اعتُبرت ضرورية لاستمرارية النشاط. كما لا يمكنهم احتساب الفوائد التعاقدية أو القانونية.
وهنا بالتحديد يبرز الدور المحوري للنيابة العامة، إذ يعهد إليها القانون بمهمة ضمان التوازن بين حماية المقاولة من جهة، وصون حقوق الدائنين والسوق من جهة أخرى. فالتدخل النشط للنيابة العامة لا يشكل ضغطاً على المسطرة، بل يمثل ضمانة للشفافية، والإنصاف، والاستدامة الاقتصادية.
وعندما تتجاوز النيابة العامة ترددها وتضطلع بدورها الكامل، يُعاد التوازن بين المقاولات والدائنين والسوق، ويسترجع القضاء التجاري وظيفته الحقيقية كآلية لتنظيم الاقتصاد وليس فقط كوسيلة لمعالجة الإفلاس.