اقتصادكم
لا زالت حسنية على قيد الحياة في نفس السرداب الذي تستخدمه كغرفة لاستقبال المئات من الأشخاص كل يوم مقابل عشرة دراهم للجلسة، القليل من السكر والكثير من الشاي والقهوة.هي ليست الوحيدة في الحي لقراءة الطالع.
لا، ليست الوحيدة من تخبرك عن المغامرات الجديدة، أو من تزرع فيك الهلع وهي تنبئك أن أمك سوف تهلك، وأن أخوك سوف يحبس عشر سنوات في السجن. ليست الوحيدة لتقول لك بأنه خلال أربعة أيام أو أربعة أسابيع أو أربعة شهور سوف تجمع بملعقة صغيرة من الشارع الكبير بعد أن تصاب بصاعقة تبعثر أحشاءك لمليون قطعة صغيرة نتنة ومتحللة. نعم، يبدو أن الجميع لديهم هذه الموهبة الاستقرائية. الجميع على اتصال مع العالم الآخر، يتواصلون بشكل متواصل بلا أسلاك مع القوى الغابرة الذين سوف يتحدون ضدنا احتفاء بسلالاتنا القذرة.هذه المرأة لا تستطيع كثمان ما تراه، تقذف به في وجهك أمام الجميع، الذين سوف يبكونك لأربعة أشهر مقدما.
وتصدق النبوءة. سبق وتنبأت بموت شخص كنت أقدره كثيرا هو شعيب، كان صبيا ودودا ولطيفا، كان الشخص الأكثر إنسانية ممن قدر لي ملاقاتهم في حياتي. روح شعب بأسره في جسد صبي يزن اثنين وثلاثين كيلو بالكاد، أبي وكريم وحساس ويتمتع بشجاعة غريبة عن أصله، كان يحمل دما آخر، نبل قل نظيره في رقعتنا. في العشر سنوات من عمره كان قادرا على حل المشكلات الأكثر تعقيدا في الحي. بلسمᴉ كما تقول أمي. الدواء الشافي لجيل بكامله لكنه رحل سريعا، مبكرا سممته ودمرته كراهية الأهل وخداعهم.
كنا معا حين عثرنا على مولود في حاوية القمامة، حدث ذلك يوم الأحد صباحا باكرا حين كنا نلعب
كرة القدم ضد فرقة من رفاقنا جميعهم سود وليس بينهم أبيض واحد، الفرقة كانت مخيفة، يبدو أن السود لديهم جانب مضافᴉ مؤخرتي هي أقل ما يمكنهم بلوغهᴉ هلكنا هم ذلك الصباح: ثلاث أهداف جميلة مقابل هدف واحد. حصلنا على الضرب مع مكافأة وصول الشرطة، نساء يثرثرن أن المولود يشبه الحاج التهامي، وأمي التي أثنت علي لأني أبلغت الشرطة، ما يعني أنني تصرفت كشخص راشد. لكن لم أكن أنا من أبلغ أصحاب الشأن، الذين يسهرون على أمن المواطنين المخلصين، الذين كانوا يغطون في النوم بينما هناك طفل حديث الولادة ملقى بين الاحضان المنفلتة للطبيعة.
لم أكن أعلم بأن الشرطة لديهم رقم هاتف، ولا حتى كيفية استخدامه أو الشجاعة على الأقل لأخبرهم عما وجدناه تحت بقايا الطعام والفوط الصحية التي استخدمتها النساء في الحي. لكن شعيب كان يعرف كيف يفعل ذلك، عندما سأله الشرطي عمن وجد الوليد الملقى، اقترب منه بخطوة واثقة وشرع يتحدث بشكل جميل، بجمل منمقة كتلك التي نسمعها في الأفلام المصرية في تلك المرحلة، انبهر الشرطي لدرجة أنه صفع شعيب، رد عليه هذا الأخير باعتذار لامع، وجملة مما لا يمكن التنبؤ به " أنه عمل لا ضمير له سيدي الشرطي، افهم انزعاجكم، لكن الأم لا تلام، لابد أنها عانت من عذاب كبير قبل أن ترمي وليدها في المزبلة، لنطلب لها المغفرة والرحمة من الله ولنا جميعا ". ظنه الشرطي المسكين يهلوس، شقي صغير لا يساوي شيئا، يقتطع له جملا معقدة بكل سهولة ويسر. شعيب كان يعامل بطريقة خشنة من طرف عائلته بسبب تشدقه الدائم، وأنا أيضا لأنه كان علي أن أذهب للشرطة لأخبرهم بأن صديقي لم يكن وحده، وبأننا كنا نرتدي لباسنا الرياضي لأننا كنا نلعب كرة القدم في الصباح الباكر، لكننا لم نر أحدا يضع المولود حيث وجدناه، وخاصة إنهاء الحديث بأن صديقي ليس أحمقا وأن والده المسكين بائع نعناع، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، حتى أنه يجهل وجود كلمة "سياسة "، لكن القصة تعقدت بسبب تفصيل مهم، على ما يبدو.
وهو لماذا قام صديقي بتغطية المولود بقميصه المثقوب؟ أجبت بأنه من المحتمل أن المولود كان يشعر بالبرد وأن شعيب كان خائفا عليه من الموت في ذلك الصباح الباكر في المزبلة بعيدا عن أمه...وماط، يسمع دوي صفعته على خدي الأيمن كان الدم ينزف من أنفي وفمي، والشرطي مازال يطلب مني أن أكرر كل ما قلته لكن بتأن هذه المرة "لا" أجبته " لا أستطيع سيدي الشرطي، لأنك ستضربني ثانية ". وماط ...ماط ... صفعتين هذه المرة،الأولى لأني قلت لا، والثانية لأني رفضت التعاون مع الأجهزة الأمنية الساهرة على راحة المواطنين المخلصين. يا إلهي المعبودᴉ كان عمري عشر سنوات، ويجبرونني على التعاون مع الشرطة وإلا سوف ينتهي بي الأمر في حفرة مظلمة ليفجروا مؤخرتي بقنينة كوكا كولا. لم أعرف بما أجيبᴉ لذا فهموا سكوتي بشكل سيء، كان هناك الشرطي الضخم صاحب الرتبة الكبيرة الذي كان يتابع الأحداث في الركن على كرسيه المتزحلق وكأنه يلهو.
وأقترب مني دافعا كرشه الكبير نحو وجهي، يهددني إن لم أتكلم سوف يزج بعائلتي وراء الشمس، في ظرف ثلاثين ثانية، رأيت حياة عائلتي تعرض في شكل صور مفككة مثل وجودنا البائس، الذي كان لحظتها جليا وواضحا أمام عيني المغمورة بالدموع والمرارة. في ظرف ثلاثين ثانية، رأيتني في سرداب طويل مظلم، بلا أبواب ولا نوافذ أزحف على أرضية زلقة بعيون مقفلة خوفا من الوقوع على ثعبان، أو وحش مفترس كان سيلتهمني حيا. رأيت صديقي شعيب مقيدا إلى مكتب بني يشبه مكاتب الشرطة، بصدر عار وجلد ملتهب، رأيت أمه تهيم مجنونة في الشارع تنتحب وتصرخ لكي يعيدوا لها ابنها. رأيت الحي مشتعلا والنساء عاريات والرجال بذكورهم المنتصبة يجرون خلفهن في عربدة دامية. رأيت الحسنية ميتة مقطوعة الرأس والديدان تخرج من خياشيمها. رأيت صديقي علي يبكي في المراحيض لأن قضيبه جرح أثناء عادته السرية اذ أنفلت منه اللجام. رأيت المستشفى في المنعطف والممرض الفاسد الذي باغتناه في المطبخ يعتلي إحدى المريضات وجيوبه مملوءة بالأدوية التي سوف.
يتبع...
عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب