اقتصادكم
الحي المحمدي كان دائما تلك الأرض الواسعة الضيقة التي وهي تخنقنا تترك لنا بعضا من الدم ليسري في عروقنا. تملأ عيوننا بالضوء لنرى بشكل أفضل هالة الجحيم الذي يحيطنا. ولكن بما أننا لم نعرف غير هذا، تبدو الجنة مجرد اختلاف طفيف عن موضوع الحرمان، وعن هذا الجانب من المدينة. الاختلافات ليست دائما على ذوق الجميع.
من بين هذه التباينات الذائعة الصيت يوجد الحب. الألم في البدن والحيز الصغير من الجنة الذي لا حظ له في الاستمرار أو في تفتح براعمه، سرعان ما تعصف به رياح الرفض. رفض العائلة والحي والغرباء، الذين ينجحون في أن يطالوننا لكي يضيقوا علينا الخناق بين ضفتين مثل ركاب على متن سفينة شبح، يفاجئون في خضم العاصفة بعدم وجود قواربهم. تدحرجهم الأمواج العاتية بلا أمل في النجاة. لكنهم لا يغرقون. هم هنا باقون يهيمون في شراسة الماء التي تشرذم خواصرهم. لكنهم لا يموتون.لا يستسلمون. يصبحون مرتبطين بالماء، معتقلين في الموج، عبيدا لتياراته المتكسرة.
عرفتها عندما كان عمري ست سنوات، عرفت على الفور باني أحبها، ليس كما يحب رجل امرأة، لكن كحيوانين صغيرين يجتمعان ضد الخوف والفراغ والبرد. مخلوقان يتحدان ضد العدو، ذلك الذي يصوب الضربات ولا يخطئ ويخبئ وجهه.
كانت تكبرني بسنة ومع ذلك تبدو كرضيع بالنسبة لمن يخيفونها. كنت أخاف أن تكسرالأشياء كالخزف مثلا. وحيدا وبعيدا عن العالم منكمشا على حبي في زاوية من الحي،كنت أراها تتفتت كجدار من الرمل تنثره الرياح. أضيع وأنا أحاول جمع فتاتها المتسربل بعيدا.
أعيش على هذا الإيقاع لأمد طويل جاعلا من جسدي حصنا لها، حاجزا لن ترفضه أبدا. إذا كان خوفي لأجلها ينسيني مخاوفي، هي، من جهتها تتقبلني كدرع لها لتساعدني على الهروب من حضن العائلة حيث لا أحد يظهر اهتمامه لوجودي.
كانت تزورنا في بيتنا وتحكم بنفسها كيف كانوا يتجاهلونني. مجرد طيف مزعج من الأفضل له أن يضيع في جمهرة الشارع. كانت تأخذني من يدي وتهبني للإسفلت روحا وجسدا. وهناك أصبحت حاميها.
يا إلهي كم كانت جميلة، كيف سأشرح هذا الجمال الذي يأخذني إلى مكان يصعب وصفه؟ لا أعرف ولن أعرف أبدا كيف سأشرح جمالها. لكنها كانت تقمصا مثاليا للنقاء بالنسبة لي. اليوم ليس لدي صورة واضحة لملامحها.
كانت بلا وجه أو بالأحرى بكل الوجوه كانت صورة عن العطاء والتسامح والحب. شكلها كان القالب لكل وجوه النساء الأخريات اللواتي سحبن خطاي بعدها، نحو مجال أصبحت فيه رجلا. لدي في الذاكرة شكلا لوجهها يظهر دائما من الخلف، ليس رفضا ولكنه بالأحرى تواضع بحيث يخفي مظهره كي يتيح للخيال فرصة تشكيل وجه الحبيبة حسب تداعيات الزمن.
يتبع..
عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب