الشطر السابع من رواية "أراضي الله"

لايف ستايل - 21-02-2024

الشطر السابع من رواية "أراضي الله"

اقتصادكم

 


منذ ذلك اليوم، لم نتبادل كلمة واحدة، لم أعرف كيف أفسر هذا، أ بالخوف؟ أم بالازدراء لأنني كنت ممددا بالأرض من طرف والدها؟ ذلك المشهد الراسخ الذي تابعته، لعلها نسيته تقريبا أصبح متلاشيا؟ لم أعرف ما الذي حدث. لم أفهم أبدا لماذا صديقتي لم تعد صديقتي.

بمعنى ما ورغم الضرب والألم، قلت لنفسي وأنا أتلوى تحت سيل الركل من قبل والدها، أنها ستحبني أكثر. نعم أكلت العصا لأجلها، بعد ذلك لا شيء، طُويَت الصفحة. 

طبعا مثل أي شيء بالحي انتشرت القصة بسرعة بين البيوت. كذلك صمت صديقتي.كما ظل الأولاد يطلبون رأسي إلى أن غادر جلادي الحي باتجاه مدينة أخرى. لم أر بعدها صديقة طفولتي، كما لم اعلم لماذا أصبحت غريبا في نظرها. لكن صورتها استمرت تكبر في قلبي إلى أن طبعت صور كل النساء اللواتي أحببتهن بعدها.

 لكي أنسى، كان لدي الكتب وقاعات السينما، حيث أغرق آلامي في آلام الآخرين، كل أبطالها الذين هم مثلي، يوما ما قبلوا الأرض لأجل حلم. ما كنت أكرهه قبل كل شيء هو الطابور اللا منتهي أمام سينما السعادة أو سينما الشريف. حيث يجمعنا مراقبو التذاكر مثل الحملان يعنفون أبداننا بأحزمة جلدية قبل أن يتركونا ندخل لنحلم ببريسلي أو سائق التاكسي، المحقق المدني الذي ينظف المدينة من مخلوقات الله القذرين. ويأخذنا الإعجاب بأبطال الشر في الزمن الجميل، المهمش المحشو بالإنسانية الذي يدور بالمدينة، في الليل خلف دخان الأزقة المحاطة بالعاهرات والقوادين ومتعاطي المخدرات، رجال شرطة فاسدون وأبناء عاهرات بكل شعرة فيهم، يبحثون عن الفدية التي لن تأتي أبدا.

كنا نحلم أيضا بالمستقبل الذي كان له وجه الشمس بالنسبة لنا. كوكب له ملامح امرأة جميلة سمراء بشعر أسود، مستلقية على شاطئ رملي أبيض، وجهها جميل مثل اليوم الذي أخبرتني فيه صديقتي بأني أحب شخص لديها في الوجود. أي نعمᴉ تمر الأيام على إيقاع المنازعات والاعتقالات وحفلات الزواج والمآتم والأحلام. كما لو أننا بسينما الهواء الطلق، تصوير دائم، مشغل لا ينتهي، في أستوديو حيث الارتجال هو الوسيلة الوحيدة لحفظ الدور.

المرة الأولى التي رأيت فيها روبير دي نيرو، كان عمري سبع سنوات. كنت في سينما السعادة مع صديقي حسن الذي كنا نناديه حسن قريطيسا. لقب مناسب له ومعناه الرصاصة الصغيرة. هو بالنهاية يشبه هذا العيار 38، قصير وسريع مثله، مزاجي ونشيط ويبدو عليه المكر، يبدو كمن يتتبع مسارات أخيلة، يحفر في وجهات لا يراها أحد غيره. يبدو وكأنه مستشفى لزرع البصل سينما الشياطين هذهᴉ مبنى مستطيل الشكل متاخم لمستشفى السعادة (الحاجز الحجري ما زال قائما، المستشفى مازال يقدم خدماته، السينما انقلب محلا تجاريا، لكنه مازال يحتفظ بنفس الاسم). 

في ذلك المكان، عضني شرذمة من الكلاب الجائعة في مؤخرتي، كنت يومها أنتظر عودة أمي التي دخلت لترى صديقتها الممرضة، قالت إنهما لم تريا بعضهما منذ ولادتي، اذكر أنني كنت أجلس أمام الباب عندما رأيت عشرات الكلاب الجائعة تجري باتجاهي. هرعت من الخوف، لكن مثل المعتوه حيث أني، عوض أن أطرق الباب وأدخل لأختبئ. فررت لكن الكلاب كانوا أسرع، انقضوا علي من الخلف أصابوني برضوض في الظهر والساقين لم تكن بالغة الخطورة. كنت محظوظا في ذلك اليوم. منذئذ لم تطأ قدمي أرض تلك المستشفى. وإذا صادف ومررت من هناك، أرى دائما تلك الكلاب الشرهة في الخارج جاهزة لأن تبلعني نيئا.  

 باختصار، كان صاحب الإنارة في سينما السعادة عجوزا من الجيل الأول. كان شخصا بسيطا كغيره في تلك الحقبة. رجل مستقيم وذو أنفة وعزة نفس. اندمجت معه بسرعة أخبرته عن كل ما أخبرني به أخي عن هذا المخرج ذو الأصل الإيطالي، المسمى مارتن سكور سيزي، هذا الرجل الصغير الحجم والذكي جدا كان لديه الكثير لحكيه عن أصوله، عن إيطاليا بالأمس وعن ترافيس، سائق التاكسي المجنون، الذي كان يعيش حياة الكلاب والمعاناة. 

صاحب الإنارة كان مأخوذا بحديثي الشيق عن فيلم لا يتحدث لا عن المغاربة ولا عن العرب الذين مرر لهم البكرات بشكل كامل، دون أن يقطع أدق التفاصيل. هكذا رأيت الفيلم تاما في المجمل لأني جعلت العجوز ينخرط في القصة حيث يقول إن بإمكانه أن يكون محل كل ترافيس موجود في هذا العالم، وحيث أن حياته بالنسبة له أهم من كل تلك القصص التي عرضت في سينما السعادة. لهذا لن يحكها لأي كان، لأن ذلك في تصوره شيء مذل أن يعرض الشخص حياته سواء بواسطة الصورة أو الحكي. 

كل هذه السينما تجعله يضحك مثل مجنون. يقول بأنه يفهم بأن الناس يتشاجرون مثلما في سينما الكون كفو والكاراتيه، ولكن أن يحكوا عن حياتهم الشخصية وعن الحب والأطفال والنساء والألم ومشاكل العائلة والمعاناة وكل ما تبقي، أو عن الحياة... " لا، إنه أمر مخز "، كان يقول " الرجال ليس لديهم أي رادع.. لا فرامل.. ابني، لا فرامل " كان يربت علي كما ليشهدني. وقبل أن يكمل يمرر يده على رأسه كما لو كان يلطف من حدة أحكامه. "المهم اليوم هو ربح المال دون ارتكاب الفواحش، حتى التنقيب في حياة الناس، ذلك مخجل يا ابني مخجل " أما أنا فلم أكن لأهتم إن كان ما يخرج يتناول الحياة الخاصة للناس. 

 ترافيس كان بالنسبة لي شخصا طيبا مثل أخي الأكبر، مهمش وصامد، رجل صلب، شخصية عنيدة وإنسانية حتى النخاع. وما تبقى أرفضه، ليس إلا حماقات منافقي البلوك. كل ما كانوا يودون إقناعي به عن هذا السائق وعن رجال العصابات، عن المهمشين وعن المذنبين، كنت أجده خارج الموضوع

 

يتبع..

عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب

.