اقتصادكم
منذ الولادة تتشكل بوتقة حيث تُفصَد الثواني، تترك الفتات خلفها، لنقتفي أثره ويأخذنا بعيدا بلا وجهة محددة، ولكن إلى أبعد مدى ممكن. سواء كان عشر سنين أو مائة، كل يعيش زمنه بطريقته، حسب إيقاعه الخاص مع مجموعة من الاكتشافات، حيث يقع على عاتق كل منا أن يقيم مداها الكامل وحده.
يمر الزمن على إيقاع الدقائق المتسارعة، والإنسان يرقص على قمة الأيام كبهلوان سكران. على المرء أن يختار الحذاء على مقاسه، هذا الحذاء يجب أن يحتفظ بنظارته وجاذبيته الأولى رغم الاستعمال. هناك استعارة جميلة عن الحذاء، يظهر من خلالها جوهر الإنسان وكنهه والتي تقول ان الرجل يتحامل على حذاءه بينما قدمه هي التي زلت. أي نعم، الحذاء مجرد حيلة صغيرة لتخفيف وطأة سطح الأرض على باطن قدمك.
لكن من الذي يمكن أن يسرع بك نحو الهاوية؟ هل تتصورون ما أود الوصول إليه؟ وإلا لا يمكنني عمل شيءᴉ غادر سعيد وهو لا ينتعل غير الإسفلت الدافئ ذلك الصباحᴉ أما سعاد، كان هناك من منحها صندلة باللون الأخضر. كانت في غاية الرقة والجمال بكسوتها الحمراء، كوردة تفتحت في مستنقع لكن جميلة.
كابتسامة طفل رضيع يلعب بأصابعه ليرعب شياطين الحياة. وكانت تعلم أنه بعد هروب والدها والخرجة الكبرى لوالدتها، كانت الحياة قد حسمت مصير هؤلاء الصالحينᴉ أي أمل بعد كل هذا؟ بان وجه الكراهية، وانتقلت سعاد إلى حضن الآلام بصندل أخضر وكسوة حمراء. أسلمت يدها الغضة لسيدة قالت لها بأنها هي من ستعتني بها من الآن فصاعدا. لم تعند سعاد، حتى أنها لم تسأل أين هي أمها كما لو أنها فهمت كل شيء. حيث كنا نسكن وفي الرابعة من العمر، لم نكن بحاجة للكلام لنفهم الأشياء. رأينا ما يكفي لنفهم ونصمتᴉ لنطبق الفم ولا نتحرك مثل تلك التماثيل اليونانية التي ترى كل شيء، تضطلع على أسرار العالم، لكن ترفض أن تصدر أي صوت. سعاد، مثلنا جميعا كانت تعرف مزايا الصمت.
كانت تعرف أنه يتوجب عليها أن تمنح يدها للسيدة وأن تتبعها وتترك الباقي للزمن. تطلعت بنظرة أخيرة للغرفة، مودعة إياها وداعا صامتا بلا كلمات، ثم أدارت ظهرها لحياة كاملة، أدارت جنبها لأربع سنوات من الصقل والتي لم تكن سوى عينة صغيرة عن الدوائر الثمانية لجهنم، سيتوجب عليها بعد ذلك مواجهتها واحدة تلو أخرى دون أدنى توقف أو راحة، لتدفع ثمنا باهظا عن عائلة سبق وحوكمت. بمعنى، ما الذي حدث لهم للتو؟ طفل في السادسة من عمره يضحي بنفسه، أمه تفقد عقلها لتتسكع في الشوارع لسنوات عديدة تتغوط في سروالها، وأب يهرب دون أن يترك أثرا خلفه، وابنة في الرابعة من العمر توضع في دار للرعاية، حيث سيتم اغتصابها من قبل كل المضطربين في ذلك الركن؟ "تلك إرادة الله "، يردد حكماء الحي. هذا هو السر إذن.
ذلك اليوم كان قد تقرر مصيرهم، الجحيم على الأرض لهذه العائلة حيث ستحمل سعاد وصمة أصلها الملعون إلى أقصى هضبة الملاعين الممسوخين، وجه من المقبرة وابتسامة مرسومة متل تحد على طريق لا يفتا يتسع مداه. كالحشود التي تنتظر في الخارج مغادرة الصغيرة للمكان. لأن العرض كان جديرا بالمشاهدة. هلع وصراخ ودموع ونحيب في كل مكان، لكن لا أحد تقدم نحو المرأة ليقول لها شيئا عن الطفلة، لا أحد تقدم وطالب بها.
هذا ما كنت سأفعله لوكنت حينها في عمر والدي، وددت لو أنني أستطيع أن أقول لهم: " لا أحد يضع يده المتسخة على سعاد، إنها ابنتي، وسأهتم بها حتى نهاية أيامي، ما الذي سيغيره موت سعيد أو هروب والدها؟ لا شيء، قد حدث ما حدث وسنتولى أمرها.
سعاد ابنتنا، دمنا ولحمنا، لا مجال لتركها تذهب إلى مكان آخر غير هذه الحيطان. وأمها ستعود يوما إليها بعد تلك الرحلة الطويلة في متاهات الله، في تلك اللحظة سنعيد لها ابنتها، والتي ستأخذها بين ذراعيها. لأن سعاد ستشعر بأن القلب الأبيض الطاهر لوالدتها قد عاد إليها. وستخبرها عن حبها لسعيد حيث هو الآن. لا مجال لتركهم يأخذونها. سعاد ستبقى معنا حتى النهاية. لا أحد سيأخذها... لا أحد...".
يتبع...