اقتصادكم
أكد عبد الرحيم الهندوف، رئيس الاتحاد الوطني للمهندسين والخبير في السياسات المائية، أن الإجراءات التي اتخذها المغرب لمواجهة الإجهاد المائي، كالاعتماد على تحلية مياه البحر والري الموضعي، ليست كافية لمجابهة الإشكال الحقيقي الذي يواجه المملكة، والمتعلق بالاقتراب من الانتقال من مرحلة الإجهاد المائي إلى النقص المطلق في المياه، أي 500 متر مكعب للفرد سنويا.
وتطرق الهندوف في حوار مع "اقتصادكم" إلى أبرز المحاور المرتبطة بمشكل ندرة المياه الذي يعيشه المغرب وسائر دول العالم، مثل مشكل التوزيع الجغرافي للمياه والسياسات العمومية والتدابير المتخذة من قبل الحكومة، إلى جانب سيناريو المرحلة المقبلة والحلول الكفيلة بحماية الثروة المائية للمملكة.
حسب تقارير البنك الدولي، فالمغرب يعاني من "إجهاد مائي هيكلي" بعد انخفاض توفر موارده المائية إلى 620 متر مكعب للفرد سنويا. كيف تقيم الوضع الحالي؟
في المغرب، دخلنا قبل سنوات إلى خانة الدول التي تعاني من الإجهاد المائي، لكن الخطير اليوم هو أننا اقتربنا كثيرا من الدخول في مرحلة أكثر حرجا، وهي خانة "النقص المطلق في المياه"، أي بمعدل 500 متر مكعب سنويا للفرد. الإجهاد المائي في المغرب "هيكلي"، والتساقطات المطرية جد متفاوتة وصارت تقل بنحو 50% عن حجمها الطبيعي.
في تصوري، فحاجيات المغرب من الماء الصالح للشرب ليست كثيرة قياسا بدول أخرى، فثلاث ملايير متر مكعب سنويا يمكن تلبيتها، لكن المشكل الأكبر هو التوزيع الجغرافي للموارد المائية، فهو غير عادل وغير متكافئ وتترتب عنه مجموعة من السلبيات، فيما يتعلق بالماء الشروب، على عكس مياه السقي التي لا يطرح فيها هذا المشكل بنفس الحدة.
مدينة الدار البيضاء مثلا تُزود بالماء من خلال سد المسيرة الموجود قرب قلعة السراغنة، وسد محمد الخامس المجاور لمدينة وجدة نسبة الملء فيه جد منخفضة، ومدن الجهة الشرقية تزود بالماء من خلال حوض اللوكوس الذي يوجد بالعرائش، ومشكل تزويد مدن بالمياه بواسطة سدود تقع في مناطق بعيدة جدا، يطرح مجموعة من المشاكل، أبرزها الكلفة المرتفعة لنقل مياه السدود إلى مناطق بعيدة، والنقطة الثانية هي ضياع كميات جد مهمة من مياه السدود في طريقها إلى المدن التي يتم تزويدها، علما أن نسبة إهدار المياه في هذه الحالة لا يجب أن تتجاوز 5%.
هل المحطات الوطنية الخمسة لتحلية مياه البحر ستحل جزءا من هذا المشكل؟
ليس على المدى القريب، فإنجاز محطة لتحلية ماء البحر يحتاج على أقل تقدير لسنة واحدة. أرى أننا في المغرب لم نقم بتهييء مخطط وطني بعيد الأمد لمعالجة المياه العادمة، وكان بإمكاننا استغلالها في سقي مجموعة من المزروعات (غير الخضر والفواكه)، على غرار الحبوب مثلا، أو بالنسبة إلى مغروسات أخرى لا تتضرر عند سقيها بالمياه المعالجة.
للأسف أكثر من 60% من المياه العادمة على مستوى الشريط الساحلي بين القنيطرة والدار البيضاء، لم تعالج ولا نستفيد منها، فمياه "الواد الحار" موجهة نحو البحر، ويمكن أن نستثمرها في بعض أنشطة السقي.
مع كل أزمة جفاف تتكرر دعوات وقف إنتاج وتصدير بعض الزراعات التي تستنزف المياه، كالبطيخ والأفوكادو مثلا. ما هو رأيك في الموضوع؟
يجب تغيير بعض المفاهيم وبعض الأفكار الخاطئة في هذا الجانب، فالبطيخ أو الأفوكادو مثلا لا يستهلكان كميات مياه أكبر من الذرة مثلا، أو الحبوب، بل حتى نخيل التمور في أقاليمنا الجنوبية، خاصة تلك التي تزرع خارج الواحات، لأنها تستنزف المياه الجوفية بشكل كبير، مثل منطقة بودنيب التي يُنتج فيها التمر المجهول.
يجب على الدولة أن تعجل بسن إجراءات جديدة للحد من سوء تدبير المياه في مجموعة من المدن، وبالنسبة إلى المناطق الجنوبية ينبغي مراجعة السياسات الزراعية، عبر تفادي الزراعات التي تستنزف كميات مهمة من الماء، خاصة نخيل التمور التي يجب أن تزرع داخل الواحات لا خارجها، لأنه في بعض الأحيان يتم جلب المياه من عمق 15 إلى 20 متر.
بالرجوع إلى زراعة البطيخ، فإنه يستهلك ما بين 3 آلاف إلى 4 آلاف متر مكعب للهكتار، وهنا يجب أن ننتقل من الزراعات الصيفية إلى الربيعية، فإذا قمنا مثلا بزرع البطيخ في فبراير أو مارس، فسنستفيد من التساقطات المطرية، وبالتالي لن يكلف الأمر سوى ألف متر مكعب للهكتار.
في نظري، المشكل مرتبط أكثر بأهمية ضبط الحاجيات المائية لكل زراعة بحسب خصائص وظروف المنطقة وتوقيت الزرع، وهنا يجب القيام ببحوث وتجارب، بل وتحيين السياسة الفلاحية للمغرب.
أين تكمن أهمية إعداد بحوث وتجارب في مواجهة مشكل الإجهاد المائي؟
في السابق كانت هناك محطات للأبحاث والتجارب، واشتغلت في هذا المجال لسنوات. كنا نحدد حاجيات كل منطقة من الماء، ونعرف المناطق التي لا تتأثر كثيرا بموجات الجفاف، وهذه المراكز حققت الغاية المرجوة منها في تلك الفترة، لكنها لم تستغل بعد ذلك ثم أغلقت للأسف.
كيف تقيم التدابير التي اتخذتها الحكومة لمواجهة الإجهاد المائي؟
تم ربط ثلاث أحواض مائية بغية نقل مياه الشمال إلى الجنوب، ونحن نعلم أن حوض اللوكوس بمفرده يلبي حاجيات العديد من الأقاليم خارج شمال المملكة بالمياه، وبالنسبة إلى محطات تحلية المياه ستحل جزءا من مشكل التزود بالماء بالنسبة إلى مجموعة من المدن، لكن ليس على المدى القصير.
وبخصوص منع سقي المساحات الخضراء بالماء الصالح للشرب وحظر غسل السيارات، فإن مثل هذه القرارات كان يجب أن تتخذ قبل سنوات، وحتى مستقبلا لا يجب أن يبقى الأمر مقترنا بفترات الجفاف أو الإجهاد المائي، إذ يجب أن نغير مجموعة من السلوكات في هذا الجانب بصفة دائمة.
ماذا عن سيناريوهات المرحلة المقبلة، خاصة في حالة ما إذا كانت السنة المقبلة شبيهة بـ 2022؟
ستكون كارثة حقيقية بدون شك! إذا ظلت التساقطات المطرية شحيحة فسنواجه مشكلا كبيرا بالنسبة إلى الماء الصالح للشرب، أما الفلاحة فهي مُتحكم فيها على كل حال والدولة هي من يسير شبكة الري.
المغرب ليس على استعداد لمواجهة سنة أخرى من الجفاف، فحقينة السدود في تراجع مستمر، ولا نستطيع إنجاز محطات لتحلية ومعالجة المياه في ظرف 3 أشهر، لأنها تحتاج إلى سنة واحدة على الأقل، كما أننا لم نوفر البنيات التحتية اللازمة ولم نجهز البدائل.
ما يجب علينا فعله الآن هو التعجيل بإخراج مشروع ربط 3 أحواض مائية، لتزويد المناطق الجنوبية ووسط المملكة بمياه الشمال، ويجب علينا مستقبلا أن نجعل لكل منطقة أو إقليم سدا خاصا به، حتى نتغلب على مشكل التوزيع غير المتكافئ للمياه على المستوى الجغرافي.
ولا يجب أن نهمل نقطة أخرى، فأصحاب الحمامات ومحلات غسل السيارات وصالات الرياضة وغيرها، يجب إلزامها باستخدام المياه التي يعاد تدويرها، وحتى بالنسبة إلى البيوت المغربية، يجب وضع أنظمة لإعادة تدوير مياه الاستحمام وغسيل الأواني، ليعاد استخدامها في المراحيض، وهناك دول بدأت منذ فترة في اتباع هذا النمط لترشيد المياه الصالحة للشرب.