بين الطموح والواقع والتنزيل.. إكراهات تواجه ورش الحماية الاجتماعية في المغرب

ملفات خاصة - 26-02-2025

بين الطموح والواقع والتنزيل.. إكراهات تواجه ورش الحماية الاجتماعية في المغرب

اقتصادكم

بقلم: علي الغنبوري: رئيس مركز الاستشراف الاقتصادي و الاجتماعي 
 

يعد ورش الحماية الاجتماعية في المغرب ركيزة أساسية ضمن الدينامية التنموية التي جاء بها النموذج التنموي الجديد، حيث لا يمكن الحديث عن إقلاع اقتصادي وتحقيق تحول إلى دولة صاعدة دون معالجة عميقة للمسألة الاجتماعية في شموليتها، فالحماية الاجتماعية ليست مشروعا معزولا عن باقي الأوراش الإصلاحية، بل هي في صلب المعادلة التنموية، باعتبارها الأداة الكفيلة بضمان العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الاقتصادية والمجالية، وتحقيق الإدماج الاجتماعي للفئات الهشة.

وقد شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة تحولات نوعية في هذا المجال، عبر تبني سياسات وإصلاحات ترمي إلى تعميم التغطية الصحية، وتحسين أنظمة التقاعد، وتعزيز الدعم المباشر للفئات المستحقة، وهي خطوات تهدف إلى إرساء نموذج أكثر عدالة واستدامة، غير أن هذا الورش الطموح يواجه تحديات كبرى ترتبط بضرورة ضمان تمويل مستدام، وهيكلة الاقتصاد غير المهيكلة، ورفع فعالية آليات الاستهداف والدعم.

وعلى الرغم من أن ورش الحماية الاجتماعية يعد خطوة طموحة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الرفاه للمواطنين، غير أن هذه المبادرات تواجه تحديات وإكراهات كبيرة تهدد استدامتها وفعاليتها، تتمحور أساسا حول التمويل والاستدامة المالية، ضغط التكاليف على ميزانية الدولة، وإشكالية الاقتصاد غير المهيكل.

  1. تحدي الاستدامة المالية

يشكل التمويل والاستدامة المالية أحد أكبر التحديات التي تواجه أوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، خاصة في سياق تعميم التغطية الإجبارية عن المرض وتنزيل برامج الدعم الاجتماعي المباشر، فتحقيق هذه الأهداف الطموحة يتطلب توفير موارد مالية تتجاوز 53 مليار درهم سنويا وبشكل مستدام، لتغطية النفقات المتنامية مع ضمان التوازن المالي بين المداخل والمصروفات، وهو ما يبدو صعب المنال في ظل المعطيات الحالية.

في سنة 2023، سجل نظام التغطية الإجبارية عن المرض معدل (نفقات/مداخل) بلغ 154%، مما يعني أن النفقات تجاوزت المداخل بشكل كبير، محققة عجزا في التحصيل وصل إلى 450 مليون درهم، وهو ما  يعكس اختلالا واضحا في التوازن المالي، حيث تتجاوز تكاليف تقديم الخدمات الصحية وتسيير النظام الموارد المتاحة، ومع تحليل تطور المداخل والنفقات خلال النصف الأول من سنة 2024، تظهر مؤشرات مقلقة تشير إلى استمرار هذا الاتجاه، إذ بلغ معدل (نفقات/مداخل) حتى نهاية شتنبر 2024 نسبة 117%، و هو ما يشكل دليلا على أن النظام لا يزال غير قادر على تحقيق التوازن المالي المنشود، مما ينذر بعجز مالي آخر بنهاية السنة إذا لم تتخذ تدابير تصحيحية عاجلة.

ويمكن تفسير هذا الاختلال المالي في منظومة الحماية الاجتماعية بعدة عوامل، أبرزها ضعف انخراط الفئات القادرة على المساهمة المالية في النظام، فعلى سبيل المثال لم يتجاوز عدد العمال غير الأجراء المسجلين في النظام 1.68 مليون شخص، وهو ما يمثل 56% فقط من إجمالي الفئات المستهدفة المقدر عددها بـ 3.5 مليون شخص، في حين لم تتعد نسبة التحصيل الفعلي للمساهمات 37%، مما يكشف عن فجوة كبيرة بين الإمكانيات المتاحة والمساهمات المجمعة، وإضافة إلى ذلك يظل أكثر من مليون شخص من العاملين في القطاعين العام والخاص خارج دائرة المساهمة في هذه المنظومة، نظرا لاستفادتهم من التغطية الصحية من خلال عقود مع شركات التأمين أو التعاضديات الخاصة، حيث يعكس هذا الوضع تحديًا مزدوجا يتمثل في محدودية الالتحاق بالنظام من جهة، وتشتت مصادر التغطية الصحية من جهة أخرى، مما يفاقم الضغط على الموارد المتاحة ويعيق تحقيق الاستدامة المالية.

  1. ضغط التكاليف على ميزانية الدولة

تشكل التكاليف المرتبطة بأوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، خاصة في مجالي الدعم الاجتماعي المباشر والتغطية الإجبارية عن المرض، عبئا متزايدا على ميزانية الدولة، مما يثير تساؤلات حول قدرة المالية العامة على تحمل هذه الالتزامات على المدى الطويل، فمنذ انطلاق برنامج الدعم الاجتماعي المباشر، بلغت مساهمة الدولة في هذا الإطار 18.54 مليار درهم، وفي الوقت ذاته ساهمت الدولة بمبلغ 15.51 مليار درهم لدعم نظام التغطية الإجبارية عن المرض.

وتظهر هذه الأرقام، التي تجاوزت مجتمعة 34 مليار درهم، حجم الالتزام المالي الذي تتحمله الدولة لتفعيل هذه السياسات الاجتماعية الطموحة، غير أن هذا الضغط المالي يأتي في سياق اقتصادي قد يواجه تحديات أخرى، مثل تباطؤ النمو أو انخفاض المداخيل الضريبية، مما قد يعيق قدرة الدولة على مواصلة هذا المستوى من الإنفاق دون التأثير على التوازنات المالية العامة، فالاعتماد الكبير على الميزانية العمومية لتمويل هذه المبادرات، دون تعبئة موارد إضافية مستدامة، قد يؤدي إلى تقليص الاستثمارات في قطاعات حيوية أخرى كالتعليم أو البنية التحتية، أو حتى زيادة الدين العمومي إذا لجأت الدولة إلى الاقتراض لتغطية هذه النفقات.

بالإضافة الى ذلك، فإن استمرار هذا الضغط قد يفرض على الدولة خيارات صعبة، مثل رفع الضرائب أو تقليص نطاق الدعم والتغطية، وهي خطوات قد تثير ردود فعل اجتماعية سلبية، خاصة بين الفئات التي تعتمد بشكل أساسي على هذه البرامج، وبالتالي يصبح من الضروري البحث عن حلول لتخفيف هذا العبء، كتعزيز مساهمة القطاع الخاص، تحسين كفاءة جمع الاشتراكات الاجتماعية، أو تطوير نماذج تمويلية مبتكرة، لضمان استدامة هذه السياسات دون المساس باستقرار المالية العامة أو جودة الخدمات المقدمة.

  1. إشكالية الاقتصاد غير المهيكل

يعد الاقتصاد غير المهيكل أحد أبرز التحديات التي تعيق تحقيق الاستدامة المالية لأوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، سواء تعلق الأمر بتعميم التغطية الإجبارية عن المرض أو تفعيل برامج الدعم الاجتماعي المباشر، فهذا القطاع الذي تتجاوز قيمته 30% من الناتج الداخلي الخام، ويضم أكثر من 60% من مجموع العاملين في البلاد، يشكل عقبة هيكلية أمام تعبئة الموارد المالية اللازمة لضمان استمرارية هذه السياسات الاجتماعية.

أولى هذه الإكراهات تتمثل في صعوبة إدماج العاملين في الاقتصاد غير المهيكل ضمن منظومة الحماية الاجتماعية، فمعظم هؤلاء العاملين، الذين يشملون الحرفيين، الباعة المتجولين، والعمال الموسميين، يفتقرون إلى عقود عمل رسمية أو دخل ثابت، مما يجعل فرض الاشتراكات الاجتماعية عليهم أمرا شبه مستحيل، وهو ما يقلص بشكل كبير قاعدة المساهمين في النظام، وبالتالي يحد من المداخل المالية المتوقعة لتمويل الخدمات الصحية والدعم الاجتماعي..

ثانيا، يؤدي حجم الاقتصاد غير المهيكل الكبير إلى تقليص المداخيل الضريبية التي تشكل مصدرا أساسا لتمويل ميزانية الدولة، فمع تجاوز هذا القطاع لثلث الناتج الداخلي الخام، فإن عدم خضوعه للضرائب يفقد الدولة موارد مالية ضخمة كان يمكن توجيهها لدعم أوراش الحماية الاجتماعية، وهو ما يضاعف من اعتماد الدولة على التمويل العمومي المباشر، مما يفاقم العجز المالي ويهدد التوازنات الاقتصادية العامة، خاصة في ظل التكاليف المرتفعة للتغطية الصحية والدعم المباشر.

ثالثا، يشكل الاقتصاد غير المهيكل تحديا في ضمان عدالة التوزيع والمساواة في الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، ففي حين تتحمل الدولة أعباء تمويل هذه البرامج لصالح جميع المواطنين، يبقى العاملون في القطاع المهيكل هم الأكثر مساهمة عبر الضرائب والاشتراكات، بينما تظل الفئات غير المهيكلة مستفيدة دون مساهمة فعلية.