اقتصادكم
بقلم علي الغنبوري: رئيس مركز الاستشراف الاقتصادي و الاجتماعي
تشكل المبادلات الفلاحية بين المغرب وفرنسا ركيزة جوهرية في بناء وتطوير العلاقات الاقتصادية الثنائية بين البلدين، حيث تتجلى فيها دينامية متميزة تجمع بين التكامل والتنوع في المنتجات المتبادلة، مما يعكس عمق الشراكة التاريخية والاستراتيجية التي تربط البلدين، فمن جهة، يبرز المغرب كمورد رئيسي للمنتجات الزراعية الطازجة التي تلبي احتياجات السوق الفرنسية، بينما تساهم فرنسا بفضل خبرتها التقنية ومواردها الصناعية، في دعم القطاع الفلاحي المغربي من خلال توفير الحبوب، المعدات الزراعية، والتكنولوجيا المتطورة، وهذا التفاعل الاقتصادي لا يقتصر على تبادل السلع فحسب، بل يمتد ليشمل التعاون في مواجهة التحديات المشتركة مثل التغيرات المناخية، إدارة الموارد الطبيعية، وضمان الأمن الغذائي، وفي ظل هذا السياق تتجسد العلاقة الفلاحية بين البلدين كنموذج للشراكة المتوازنة التي تجمع بين المصالح التجارية والأهداف التنموية، مما يجعلها عنصرا حيويا في تعزيز الروابط الاقتصادية والثقافية على حد سواء، خاصة مع تزايد الاهتمام العالمي بالاستدامة والابتكار في القطاع الزراعي.
حجم المبادلات التجارية العامة
بلغت قيمة المبادلات التجارية الإجمالية بين المغرب وفرنسا في سنة 2023 حوالي 14 مليار يورو، وهو رقم يعكس الدينامية الاقتصادية بين البلدين، وتشير التقديرات في عام 2024، إلى تحسن بنسبة 0.9% في التجارة الخارجية، مع تركيز متزايد على القطاع الفلاحي، وفقا لتقارير اقتصادية متعددة، تظل فرنسا الشريك التجاري الأول في المجال الفلاحي للمغرب، حيث تستحوذ على حصة كبيرة من صادراته الفلاحية.
الصادرات الفلاحية المغربية إلى فرنسا
يعد المغرب موردا رئيسيا للمنتجات الفلاحية في السوق الفرنسية، خاصة الفواكه والخضروات على سبيل المثال:
الطماطم: تشير تقديرات نقابة المزارعين الفرنسيين إلى أن 69% من الطماطم المستهلكة في فرنسا خلال 2024 مصدرها المغرب، هذا الرقم يسلط الضوء على الاعتماد الكبير للسوق الفرنسية على الإنتاج المغربي.
الحوامض: يصدر المغرب حوالي 600 ألف طن من الحوامض سنويا، وتستحوذ فرنسا على نسبة كبيرة من هذه الكمية تقدر بحوالي 20-25% من إجمالي الصادرات، وفقا لإحصائيات وزارة الفلاحة المغربية.
منتجات اصلية: منتجات مثل زيت الأركان والزعفران تشهد طلبا متزايدا في فرنسا، حيث بلغت قيمة صادرات زيت الأركان وحده حوالي 50 مليون يورو في 2023، مع توقعات بارتفاعها في 2024-2025 بفضل الترويج في معارض مثل معرض باريس الدولي للفلاحة.
الواردات المغربية من فرنسا
في المقابل، يستورد المغرب من فرنسا منتجات فلاحية وتجهيزات تساهم في تطوير القطاع الزراعي:
الحبوب: يعتمد المغرب على فرنسا لتلبية جزء من احتياجاته من القمح اللين، حيث استورد حوالي 1.2 مليون طن في 2023، بقيمة تقارب 300 مليون يورو، وفقا لمكتب الصرف المغربي.
المعدات الفلاحية: فرنسا تزود المغرب بآلات وتكنولوجيا زراعية بقيمة تتجاوز 150 مليون يورو سنويا، مما يدعم تنفيذ استراتيجية "الجيل الأخضر 2020-2030".
العجز والفائض التجاري
تشير الأرقام إلى أن فرنسا سجلت فائضا تجاريا مع المغرب في 2024 بقيمة تقدر بـ 2.5 مليار يورو على مستوى المبادلات الإجمالية، لكن في القطاع الفلاحي تحديدا، يميل التوازن لصالح المغرب بسبب حجم صادراته الكبير من المنتجات الطازجة، حيث يقدر العجز التجاري الفرنسي في قطاع الخضروات والفواكه مع المغرب بحوالي 500 مليون يورو سنويا.
التعاون والمستقبل
يمثل التعاون الفلاحي بين المغرب وفرنسا أحد أبرز محاور الشراكة الاستراتيجية التي تربط البلدين، حيث يتجاوز حدود التبادل التجاري التقليدي ليصبح منصة للتعاون المشترك في مواجهة التحديات العالمية الراهنة واستشراف آفاق مستقبلية واعدة، وقد تجلى هذا التعاون بشكل واضح خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب في أكتوبر 2024، والتي شكلت محطة هامة في تعزيز العلاقات الثنائية، حيث تم خلال هذه الزيارة، التوقيع على 22 اتفاقية تشمل عدة مجالات، من بينها اتفاقيات مخصصة للقطاع الفلاحي والغابوي، والتي تهدف إلى وضع أسس متينة لتعاون طويل الأمد يركز على تحقيق الاستدامة البيئية والاقتصادية.
وتركز هذه الاتفاقيات بشكل رئيسي على مواجهة التحديات الناجمة عن التغيرات المناخية، التي تؤثر بشكل مباشر على الإنتاج الفلاحي في كلا البلدين، وتشمل تعزيز تقنيات الري المستدام، تحسين إدارة الموارد المائية، وتطوير سلاسل إنتاج فلاحي صديقة للبيئة، كما تسعى الاتفاقيات إلى تبادل الخبرات في مجالات مثل الزراعة الذكية مناخيا، حماية الغابات، ومكافحة التصحر، وهي قضايا تجد فيها التجربة المغربية، لا سيما من خلال استراتيجية "الجيل الأخضر 2020-2030"، صدى إيجابيا لدى الجانب الفرنسي، بالإضافة إلى ذلك، تركز هذه الشراكة على دعم الأمن الغذائي من خلال تعزيز الإنتاجية وتنويع المحاصيل بما يتماشى مع احتياجات السوقين المحلية والدولية.
دور معرض باريس الدولي للفلاحة 2025
تأتي مشاركة المغرب كضيف شرف في النسخة الحادية والستين من معرض باريس الدولي للفلاحة (من 22 فبراير إلى 2 مارس 2025) كفرصة مناسبة لترجمة هذا التعاون إلى إنجازات ملموسة، حيث يعد هذا الحدث، الذي يستقطب أكثر من 600 ألف زائر سنويا، منصة مثالية لعرض إمكانيات القطاع الفلاحي المغربي، سواء من حيث المنتجات التقليدية مثل زيت الأركان والحوامض، أو من خلال الابتكارات التي يقدمها في مواجهة التحديات البيئية، ومن المتوقع أن تُسهم هذه المشاركة في تعزيز المبادلات التجارية الفلاحية بين البلدين، حيث تشير التوقعات إلى أن الصادرات الفلاحية المغربية إلى فرنسا قد تشهد ارتفاعًا بنسبة تتراوح بين 5% و10% خلال السنوات القليلة القادمة، مدفوعة بالطلب المتزايد على المنتجات المغربية في السوق الفرنسية والأوروبية عموما.
التحديات والفرص في التعاون الفلاحي بين المغرب وفرنسا
على الرغم من الإمكانيات الواعدة التي يتمتع بها التعاون الفلاحي بين المغرب وفرنسا، فإن هذه الشراكة لا تخلو من تحديات كبيرة تتطلب معالجة متوازنة لضمان استمراريتها ونجاحها على المدى الطويل، ومن بين هذه التحديات، تبرز قضية المنافسة المتزايدة بين المنتجات الفلاحية المغربية والفرنسية في السوق الأوروبية، وخاصة في فرنسا نفسها، التي تعد السوق الأولى للصادرات المغربية مثل الطماطم والحوامض، فهذا الوضع يثير قلقا وانتقادات حادة من بعض الفلاحين الفرنسيين، الذين يرون في الواردات المغربية تهديدا مباشرا لإنتاجهم المحلي، خاصة أن المنتجات المغربية تتميز بأسعار تنافسية وجودة عالية، نتيجة تكاليف إنتاج أقل وظروف مناخية مواتية. هذه الانتقادات، التي تصاعدت في السنوات الأخيرة، وهو ما يفرض الحاجة إلى إيجاد توازن يحمي مصالح الفلاحين في كلا البلدين.
الى جانب ذلك، تشكل التغيرات المناخية تحديًا مشتركا يؤثر على الإنتاج الفلاحي في المغرب وفرنسا على حد سواء، حيث يواجه المغرب الجفاف المستمر وتراجع الموارد المائية، بينما تعاني فرنسا من تقلبات مناخية تؤثر على محاصيلها التقليدية، حيث تضيف هذه الضغوط البيئية تعقيدا إلى دينامية التبادل التجاري، وقد تؤدي إلى تقلبات في العرض والطلب، مما يتطلب استراتيجيات مشتركة للتكيف والتخفيف من التأثيرات السلبية.
مع ذلك، يمكن تحويل هذه التحديات إلى فرص حقيقية من خلال نهج مبتكر وتعاوني يعزز التكامل الاقتصادي بين البلدين، وعلى سبيل المثال يمكن الاستفادة من المنافسة لتطوير مشاريع مشتركة في مجال التصنيع الغذائي، حيث يمكن للمغرب توفير المواد الخام مثل الفواكه والخضروات، بينما تساهم فرنسا بخبرتها في التحويل الصناعي لإنتاج منتجات ذات قيمة مضافة، مثل العصائر، المعلبات، أو المنتجات العضوية المعتمدة.
كما يمكن استغلال التحديات البيئية كمحفز لتطوير سلاسل توريد مستدامة تخدم مصالح الطرفين، فعلى سبيل المثال يمكن للمغرب وفرنسا التعاون في إنشاء مشاريع بحثية مشتركة تركز على ابتكار تقنيات زراعية موفرة للمياه أو تحسين إنتاجية المحاصيل في ظل الظروف المناخية القاسية، مما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي ويدعم تصدير منتجات مبتكرة تلبي معايير الاستدامة التي يطالب بها المستهلكون الأوروبيون ، كما يمكن أن تشكل هذه الشراكة نموذجا للتعاون الإقليمي، حيث يمكن للمغرب بفضل موقعه الجغرافي وعلاقاته مع إفريقيا، أن يصبح بوابة لتسويق المنتجات الفرنسية في القارة، بينما تستفيد فرنسا من الخبرة المغربية في الزراعة الصحراوية لتطوير مشاريع مشابهة في مناطق أخرى.