اقتصادكم ـ شعيب لفريخ
إشكالية دعم الدولة لأرباب المطاحن لصناعة دقيق وطني مدعم لكي يباع بثمن رخيص نسبيا، هي إشكالية كبيرة تطرح أسئلة حول طرق صرف وتدبير الأموال العامة، وحول القيمة الغذائية لهذا النوع من الدقيق وتأثيره السلبي الخطير على الصحة العامة للمواطنين.
أرباب المطاحن يتلقون دعما واسعا من الدولة لا يعلمه إلا الله مقابل طحن وتحضير الدقيق الوطني الأبيض La Farine nationale de blé tendre المدعم لفائدة المعوزين لكي يقتنوه بثمن أقل من الثمن الذي يباع به الدقيق الآخر المسمى الدقيق الممتاز La farine spéciale de blé tendreالذي يتم بيعه بثمن آخر، لكن الطرف الضعيف والذي يؤدي الثمن الخطير عند اقتناء الدقيق الوطني الأبيض المدعم هو الفئات المعوزة في المدن والبوادي ومناطق انتشار الفقر، التي تؤدي الثمن غاليا على مستوى إلحاق الضرر بالسلامة الصحية للفقراء.
المطاحن الصناعية وعملية تكرير الدقيق المدعم
فأرباب المطاحن الصناعية يقومون بعملية تصنيع الدقيق الوطني المدعم أي القمح الطري ( الفارينا) أكان مستوردا أم محليا، وذلك من خلال تكريره وتجريده من جميع العناصر الغذائية الأساسية من فيتامينات ومعادن.
وحسب معلومات مؤكدة، فإن المطاحن الصناعية بالمغرب تزيل حوالي 13 أو 14 مادة أساسية من "فارينا" الدقيق الوطني المدعم، والتي تستعمل في الصناعات الغذائية لمنتوجات مستقلة يتم تسويقها من طرف أرباب المطاحن بأثمان تجارية مهمة أمام أعين الجميع، مما يجعل أرباب المطاحن يحصلون على أرباح من عمليات التصنيع إضافة إلى أموال دعم الدولة وكذا أموال المكافآت الممنوحة الأخرى.
وحسب الأبحاث والمعطيات المنشورة، فإنه عند تصنيع الدقيق الوطني الأبيض المدعم، يتم التخلص خلال عملية التكرير من جرثومة الطحين التي تحتوي على 76% من الفيتامينات والمعادن بالإضافة إلى 97% من الألياف القابلة للذوبان في الماء و50% من الكالسيوم و70% من الفوسفور.
وبعد إزالة المواد الغذائية الأساسية من الدقيق الوطني المدعم يتم المرور إلى فعل خطير آخر وهو تبييض مادة الدقيق من خلال استعمال مواد كيماوية مسرطنة تمنع دول الإتحاد الأوروبي والعديد من الدول استعمالها، لكنها غير ممنوعة في المغرب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر المواد التالية:
Bromate de Potassium - Azodicarbonamide - Dioxyde de chlore
الدقيق الوطني المدعم وأضراره على الصحة العامة
يحتوي الدقيق الأبيض على مادة "ألوكسان"Alloxan وهي مادة تؤثر على خلايا بيتا في البنكرياس وتزيد فرصة الإصابة بالسكري، ويؤدي الاستهلاك المرتفع للكربوهيدرات المكررة إلى مقاومة الأنسولين وارتفاع مستويات السكر في الدم، فضلا عن أنها تزيد من مستويات الدهون الثلاثية في الدم وهو ما يؤدي إلى الإصابة المباشرة بمرض السكري من النوع الثاني وأمراض القلب والشرايين.
كما أن استعمال حامض الفوليك المضاف إلى الدقيق له علاقة بانتشار سرطان الثدي، وفي آخر مرحلة في تصنيع الدقيق الأبيض المدعم يتم إضافة مادة برومات البوتاسيوم، وهذه المادة تعتبر من فئة 2B المسرطنة التي تم حظرها في العديد من دول العالم.
فعندما يصبح الدقيق الأبيض حمضيا يؤدي حسب الخبراء إلى سحب الكالسيوم من العظام ويؤدي إلى هشاشة العظام والتهاب المفاصل وأمراض مزمنة أخرى مثل مشاكل في الجهاز الهضمي وإلحاق الضرر بالأمعاء ويسبب بطء عملية الأيض وزيادة الوزن وغير ذلك من الأمراض.
وتنبغي الإشارة إلى أن الدقيق الأبيض المدعم يتم تصنيعه من القمح اللين المستورد أو المخزن المعالج بمبيدات الفطريات ومبيدات الحشرات، من بداية الشتلات حتى مرحلة التخزين.
والدقيق الأبيض المدعم تستهلكه الفئات الفقيرة بكثرة سواء كخبز(فورص) أو باريزيان أو مسمن أو حلويات، بل حتى الأطفال يستهلكونه بكثرة عند شرائهم البسكويت المصنع من طرف الشركات بالدقيق الوطني المدعم كما أكد ذلك أحد المهنيين.
غياب المراقبة الصحية بشكل شبه كامل عن تصنيع الدقيق المدعم
فالمكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني الذي هو الجهاز الذي يشرف بشكل مباشر على موضوع الدقيق المدعم وعلى عملية تصنيعه في المطاحن الصناعية، فإنه لا يقوم بدور المراقبة لحماية الصحة العامة للمواطنين، رغم أن القانون أسند له مراقبة المنتوجات في مختلف مراحلها فهو يترك الصناعيين من أرباب المطاحن يقومون بما يحلو لهم بخصوص قوت المعوزين.
فالمكتب الوطني المهني للحبوب يتوفر على "مختبر تكنولوجيات الحبوب" ويتعامل كذلك مع "المختبر الرسمي للتحليل والبحث الكيميائي بالدارالبيضاء"، غير أن تقاريره هي تبريرية تبرر الأمر الواقع، وآخر تقرير له حول جودة الدقيق المدعم ترجع إلى شهر نونبر 2020، حسب ما هو منشور على الموقع الإلكتروني للمكتب.
أما المكتب الوطني للسلامة الصحية ومراقبة المنتجات الغذائية التابع لوصاية وزارة الفلاحة فهو يلزم الصمت بخصوص تدمير صحة المواطنين بمنتجات الدقيق المدعم غير الخاضع للمراقبة، ويبقى المكتب وفي للقانون الأصلي المنظم له الصادر عن سلطات الحماية الفرنسية لضمان تسويق المواد الغذائية إلى فرنسا والدول الأوروبية سليمة من كل ما يضر صحة مواطني تلك البلدان؛ والتعديلات الجارية حاليا على القانون المنظم جاءت في جزء أساسي منها بناء دراسة وتوصيات الاتحاد الأوروبي بخصوص مهام المكتب لضمان تصدير المواد الغذائية إلى أوروبا سليمة من كل أذى يمكن أن يلحق صحة مواطني الدول الأوروبية.
غياب الشفافية المتعلقة بأموال ومكافآت دعم الدقيق الوطني
إن تحديد طرق وكيفية تنظيم أموال الدقيق المدعم الموجه إلى الفئات المعوزة ليست من اختصاص صندوق المقاصة بشكل مباشر، وإنما يشرف عليها المكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني الخاضع لوصاية وزارة الفلاحة، بشكل مباشر بناء على القانون 12.94 المتعلق بالمكتب الوطني للحبوب والقطاني وبتنظيم سوق الحبوب والقطاني، وكذلك المرسوم الصادر بتاريخ 30 يونيو 1996 لتطبيق ذات القانون. فالمادة 11 و12 من المرسوم تسند إلى 3 وزراء هم كل من وزير المالية والداخلية والفلاحة وبقرار مشترك بتحديد شروط شراء القمح اللين المعد لصنع الدقيق المدعم وكذلك شروط التوضيب والبيع والمدخرات الاحتياطية والتمويل وتحمل الدولة لكلفة الادخار، وتنظم المادتين 22و23 من القانون 12.94 المكافآت التعويضية للمطاحن عن بيعها الدقيق المدعم وكذا شروط تزويد المطاحن بالقمح اللين لصنع الدقيق المدعم ومقاييس المكافآت أو التخفيضات تبعا للجودة وشروط مصاريف الخزن والتسيير وهامش الربح الممنوح للتجار والتعاونيات فضلا عن شروط صنع الدقيق المدعم وتحديد جودته وتوضيبه ومراقبته وبيعه.
كما أن ذات القانون هو الذي يؤطر القطاع برمته وكذا جميع المهنيين من مطاحن ومخابز وغيرهم، حيث إن المجلس الإداري للمكتب الوطني للحبوب والقطاني الذي هو تحت وصاية وزير الفلاحة والمالية نصفه من الوزراء ومن ينوب عنهم، ويضم أيضا الجامعة الوطنية للمطاحن والجامعة الوطنية للمخابز، كأعضاء بذات المجلس.
وقد سبق للفدرالية المغربية لأرباب المخابز أن عبرت في بلاغ لسابق صادر عنها ’’ أن الدعم الحكومي لا يقدم إلى المخابز بل إلى الصناعة التحويلية لأرباب المطاحن، كما طالبت الفدرالية بالتقصي حول كمية وجودة الدقيق المدعم الموجه إلى الفئات الهشة والفقيرة، رغم الدعم الذي خصص لسلسلة الحبوب والذي يبلغ 800 مليار في إطار برنامج مخطط المغرب الأخضر.’’
وكان رئيس الفدرالية عبد النور الحسناوي قد صرح في وقت سابق، أن الدقيق المدعم الذي يشبه الجبس يكون غير صالح لخبزه إلا بإضافة مواد أخرى كالسكر.
غياب المراقبة المالية والتدبيرية لعملية دعم المطاحن الصناعية
غياب مراقبة البرلمان والإدارات المعنية التابعة للمصالح الحكومية للتسيير المالي والتدبيري للمكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني بخصوص الدعم المالي والمكافئات التي تحصل عليه المطاحن الصناعية بخصوص عملية صناعة الدقيق الوطني المدعم، ومامدى الجودة الصحية لهذا الدقيق.
كما أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات لم تتضمن افتحاصات بخصوص تقييم تدبير عملية دعم الدقيق الوطني والأموال العمومية التي تم صرفها لفائدة أرباب المطاحن الصناعية، طيلة السنوات الأخيرة، بحيث أن آخر تقرير للمجلس الأعلى للحسابات الذي تناول فيه يرجع إلى سنة 2007.
وقد وقف المجلس الأعلى للحسابات في تقريره المذكور على وجود اختلالات تشوب الدقيق المدعم، فبعض المطاحن تصرح للمكتب بتسليمها إلى كميات معينة من الدقيق المدعم للتجار، غير أن المجلس اكتشف أن هؤلاء لا يوجدون في العناوين المصرح بها، وأغلب أرباب المطاحن الذين يستفيدون من منحة التعويض التي يؤديها المكتب لا يسلمون التجار كميات الدقيق والحبوب المطابقة.
وفي نفس الوقت، توصل المجلس من خلال المعاينة إلى عدم وجود الدقيق الوطني من القمح الطري لدى أغلب التجار المقبولين وعدم احترام الأسعار القانونية المطبقة على الدقيق الوطني والحبوب، الأمر الذي دفع المجلس إلى استنتاج وجود شبكة غش منظمة يشارك فيها بعض أرباب المطاحن والتجار.
إشكالية الدقيق الوطني المدعم لا تخص المال العمومي فقط وإنما الصحة العامة للمواطنين
إن إشكالية الدقيق الوطني المدعم، ليست فقط قضية تخص طرق تدبير المال العمومي ومآله وإنما يتعلق أساسا بالصحة العامة للمواطنين، خاصة المعوزين الذين يقتاتون من هذا الدقيق، وينبغي إجراء بحث واسع بخصوص علاقة هذا النوع من الدقيق والانتشار الواسع خاصة وسط الفئات المعوزة في المجتمع لأمراض هشاشة العظام وسرطان القولون ومختلف أمراض الجهاز الهضمي والسكري والشرايين والقلب وسرطان الثدي وسرطانات أخرى.
وينبغي على مؤسسات الدولة والمجتمع المدني أن تطالب بالتخلي عن مثل هذا الدقيق المضر بالصحة العامة وتعويضه بدقيق صحي غير مكرر يتضمن العناصر الغذائية اللازمة من فيتامينات ومعادن ومواد صحية لازمة أخرى، فالدعم ينبغي أن يتوجه لدعم صحة الفقراء والمعوزين وليس لتدمير صحتهم، وإغناء الأثرياء والمستفيدين على حساب أولئك المعوزين والفقراء.