شعيب لفريخ
وجود الفساد بالمغرب هو حقيقة مؤكدة، بعد أن تراكم على امتداد عدة عقود وتشهد على ذلك معطيات الواقع ومختلف المعطيات الرسمية وشهادات الفاعلين بمختلف أصنافهم، فالرشوة ونهب المال العام والاستلاء على المواقع الحساسة حول الفساد إلى فساد هيكلي حقيقي يتمتع بمناعة كبيرة للبقاء والاستمرار والتكيف من داخل المؤسسات مع مختلف الظروف ومحاربته محاربة قوية لأية تنمية اقتصادية أو اجتماعية.
فقد تم يوم الثلاثاء 29 مارس 2022 إحالة 31 شخصا، من بينهم 18 موظفا عموميا بوزارة الصحة من ضمنهم مهندسين بيو طبيين، و13 شخصا من أصحاب المقاولات، على النيابة العامة بمحكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، لتورطهم في "اختلاس وتبديد أموال عمومية من خلال التلاعب في تمرير وتنفيذ الصفقات العمومية وتواطأت في وزارة الصحة على المستويين المركزي والجهوي مقابل مبالغ مالية مهمة كرشوة لتوريد معدات طبية وشبه طبية مستعملة.
وفي نفس اليوم، استمع قاضي التحقيق المكلف بالجرائم المالية بمحكمة الاستئناف بفاس، إلى مجموعة من الموظفين بجماعة صفرو، على خلفية "اختلاس وتبديد أموال عمومية.."
وقبل ذلك، وفي مدينة فاس نفسها، أمر الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بمتابعة البرلماني ورئيس جماعة أولاد الطيب رشيد الفايق، رفقة أخيه رئيس مجلس عمالة فاس وأعوان سلطة ومقاولين ومهندسين.. بتهم " الارتشاء واختلاس وتبذير أموال والتزوير في محررات رسمية واستغلال النفود والنصب وبيع المساكن بدون وجه حق وعرقلة سير العدالة" .
ورشيد الفايق البرلماني ورئيس جماعة أولاد الطيب هو المنسق الإقليمي لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي يقود الحكومة التي يترأسها رئيس الحزب عزيز أخنوش.
وفي يوم الاثنين الماضي أمر قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدارالبيضاء بإيداع المدير العام المنتدب لبنك "أوف افريكا" الذي هو امبراطورية البنك المغربي للتجارة الخارجية سابقا، وهو من الأبناك الكبرى في المغرب، ويعتبر المدير العام المعتقل بمثابة الرجل الثاني أو الثالث بعد الرئيس المدير العام للبنك عثمان بنجلون.
وقد تمت متابعة مدير عام بنك أوف افريكا بتهمة الارتشاء وتسهيل حصول برلماني سطات "بابور الصغير" المنتمي لحزب الاتحاد الدستوري، المحكوم بخمس سنوات سجنا نافدة، على مبالغ مالية قدرت بعشرات الملايير..
وينتظر الرأي العام بمدينة فاس، في هذه الأيام صدور أحكام غرفة الجنايات المكلفة بالجرائم المالية بمحكمة الاستئناف بمدينة فاس ضد بعض المسؤولين الرئيسيين بمؤسسة "روح فاس المكلفة بتنظيم مهرجان للموسيقى العالمية العريقة" التي كان يترأس مجلس إدارتها مسؤول كبير بولاية فاس.
ويبلغ عدد المتهمين المتابعين بتهمة "اختلاس وتبديد أموال عامة والتزوير في محررات عرفية والانتفاع من إدارة المشروع" 14 متهما، من بينهم الرئيس الحالي للمؤسسة (ع. ز) الذي كان يشغل صفة المدير العام السابق للمكتب الوطني المغربي للسياحة، والمدير الجهوي للسياحة بفاس (إ. ف) وآخرون، وقد تم اختلاس الأموال العامة المقدمة للمؤسسة من طرف كل جهة فاس مكناس ومجلس عمالة فاس وجماعة فاس ومؤسسات عمومية أخرى، وتقدر الأموال المختلسة بحوالي ملياري سنتيم.
هذه مجرد بعض الأخبار المستجدة عن بعض حالات الفساد القليلة فقط، والتي يمكن أن تعطي صورة مصغرة عن واقع الفساد الهيكلي المستشري بمرافق القطاع العام، والتي لم تستطع مختلف الأجهزة الرقابية الوصول إليه، كما أن افتحاصات المجلس الأعلى للحسابات لم تستطع الوصول إليه في جميع القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية لأسباب تتعلق بالإمكانيات المادية واللوجستية وغيرها..
فالفساد الإداري والاقتصادي يدل عليه اسمه، وهو شيء مبغوض من طرف الناس والمجتمع ومن الطبيعة، فهو حسب إحدى الدراسات الجادة، " له دور سلبي كبير في التأثير على سلامة الاستقرار السياسي والتضييق على الحريات والحقوق السياسية والمدنية للمواطنين وتجاوز السلطة لحكم القانون وضرب مبدأ الشفافية والمساءلة".
كما أن الفساد تضيف الدراسة " يساهم في إضعاف المؤسسات السياسية التي تقوم بوضع الحدود بين الدولة والمجتمع، وبين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة وبين السياسة والاقتصاد، من خلال التأثير السلبي غير المباشر على المؤسسات الرقابية والأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني بعد تحولها إلى مؤسسات غير قادرة على تلبية طلبات الرأي العام بسبب فسادها من الداخل".
إن الفساد كما يعرفه الباحثون هو" استعمال السلطة بشكل سلبي من أجل تحقيق مصالح شخصية وترك المصلحة العامة وهو يشمل القطاع العام والخاص والمجتمع المدني، ويشمل الرشوة واستغلال النفود والسرقة واختلاس المال العام"، وهو "سلوك منحرف تترتب عليه خسائر مادية ومالية ومعنوية للمواطنين والمؤسسات العامة والخاصة".
فالفساد مع تدني مستوى القيم والأخلاق، كما جاء في أحد الدراسات المختصة، أصبح ممارسة " عادية دون تعقيد وكمسلمة في التعامل مع مختلف المؤسسات الحكومية وغيرها، لكن أخطر نتائج الفساد الإداري هو وصول غير المؤهلين إلى مراكز اتخاذ القرار وانتقال عدوى الفساد إلى غير الفاسدين الذين يتم إدماجهم بقوة الشيء في منظومة الفساد العام، وهو ما ينعكس على عدم الاستقرار الاجتماعي وتنامي الفقر وانتشار السلوكيات المنحرفة وانتشار اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع الذين يتعايشون معه" .
فمشكل الفساد في المغرب ليس بسبب عدم وجود قوانين، فالقانون الجنائي في فصله 250 يعاقب على الرشوة، كما أن الفصلين 241 و242 يعاقبان على الاختلاس بالسجن من 5 إلى 20 سنة ضد كل موظف عمومي اختلس أو اخفى أموالا عامة أو خاصة أو حجج أو عقود..
لكن المشكل هو استشراء الفساد الذي تراكم على مدى عدة عقود من الزمن، واستطاع أن يكون تراكم وخبرة ودهاء وقاعدة عريضة للاستمرار والانقضاض رغم وجود القوانين، وأصبح للفساد مفسدون بالبرلمان وبمختلف المؤسسات العمومية للدفاع عن الفساد وسياسات الفساد.
وإذا كان البرلمانيون المعتقلون حاليا، منهم برلماني فاس ورئيس جماعة أولاد الطيب رشيد الفايق ـ برلماني سطات بابور الصغيرـ برلماني ورئيس جماعة الشراط ببن سليمان سعيد الزايدي، دليل على وجود الفساد في المؤسسات، فهناك العديد من المفسدين الذين ما يزالون يمارسون فسادهم وإفسادهم بكل حرية.
وقد استطاع الفساد أن يتملص ويفرغ حتى الآليات القانونية الحديثة التي جاء بها دستور 2011 من محتواها (عدم تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، عدم تفعيل مبادئ الحكامة الجيدة والإصرار على عدم تحديد قواعد الحكامة الجيدة في مجال تسيير الإدارات العمومية والجهات والجماعات الترابية ومختلف الأجهزة العمومية..)
فرغم صدور القانون التنفيذي لقانون المرافق العامة في شهر يوليوز 2021، والذي تبعه إصدار جزء قليل من الترسانة القانونية للإصلاح، أما الجزء الأكبر منها فلم يتم إصداره منذ ذلك الوقت وأصبحت متوقفة بشكل نهائي منذ مجيء الحكومة الحالية، أي منذ ما يفوق ستة أشهر من عمر الحكومة الحالية.
مع العلم، أن هناك حاجة ماسة إلى منظومة تشريعية وتنظيمية تؤطر كل صنف من المرافق العمومية، فهنالك حوالي 35 قطاعا وزاريا و1600 جماعة ترابية، وأكثر من 800 مؤسسة ومقاولة عمومية، بالإضافة إلى باقي الهيئات العامة والخاصة المكلفة بمهام المرفق العام، هذا فضلا عن عدم إعداد مدونات أخلافية، ووضع برامج لتعزيز قيم النزاهة والشفافية.
بل هناك تراجع للحكومة الحالي عن مسلسل تخليق الحياة العامة، حيث تم سحب للقانون 10.16 المتعلق بتجريم الإثراء غير المشروع الذي سبق أن تم إعداده ضمن الولاية البرلمانية والحكومية السابقة، وكذا تجميد الحكومة الحالية للاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد التي سبق وأن أعدتها عدة قطاعات حكومية، لأن البرنامج الحكومي الحالي لا يتضمن أية وعود بتخليق الحياة العامة والتصدي للفساد، رغم علم الجميع بأن الفساد يكلف حسب جمعية حماية المال العام حوالي 50 مليار درهم سنويا، أما الأموال المنهوبة والمختلسة التي لم تسترجعها الدولة فهي ضخمة ولا يعلم مبلغها ومآلها إلا الخالق سبحانه.
وقد سبق لرئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن أعلن "أن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2015 ـ2025 ستنتهي في سنة 2025 ولا يوجد لحدود الساعة أي أثر لها على أرض الواقع، معتبرا أن الرشوة والريع والفساد أصبح معضلة حقيقية ولا يمكن لأية برامج تنموية أو سياسات عمومية كيفما كانت جودتها وبرامجها أن يكون لها أي أثر في الواقع إذا استمر الفساد والريع والرشوة والافلات من العقاب".
وحتى البنك الدولي الزبون المفضل لدى المغرب، والذي يستفيد من المغرب طولا وعرضا من مبالغ الفوائد الضخمة المترتبة عن القروض الكبيرة التي يمنحها للمغرب والتي لا يراقبها أحد، فضلا عن استفادته من الاستثمارات والشراكات في العديد من القطاعات بالمغرب من خلال شركته "شركة التمويل الدولية" SFI، فقد قام هذا البنك بإنجاز دراسة.
هذه الدراسة التي كانت حول موضوع " معيقات تطور المقاولات في المغرب2013ـ2019 "، وقد خلصت دراسة البنك الدولي، إلى أن "العائق الرئيسي الأول للاستثمار بالمغرب هو الرشوة، تليه عدة عوائق أخرى منها الرخص والاجازات، جرائم السرقة والفوضى، ارتفاع الضرائب عن المعدل العالمي، المحاكم، عدم الاستقرار السياسي، التشريعات الجمركية والتجارية، صعوبة الولوج إلى التمويل، الاقتصاد غير المهيكل.. "
أما مؤشر الرشوة لمؤسسة "ترانسبارانسي الدولية" الذي يصنف الدول وفقا لدرجة انتشار الرشوة في القطاع العام وفق تقييم الخبراء والفاعلين الاقتصاديين، فقد تراجع المغرب سنة 2021 للسنة الثالثة على التوالي إلى المركز 87 من بين 180 دولة وفقد 14 مرتبة مقارنة بسنة 2018.
والي بنك المغرب السيد عبد اللطيف الجواهري في العرض الذي قدمه في شهر فبراير الماضي أمام لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب، حول " وضعية الاستثمار " تحدث عن وجود الرشوة واستدل على ذلك بتقريري البنك الدولي حول " معيقات تطور المقاولات في المغرب" وتقرير مؤسسة "ترانسبارانسي الدولية".
والي بنك المغرب قدم في نهاية عرضه عدة توصيات لتجاوز معضلة الفساد منها: " ينبغي تسريع الإصلاحات التي تهدف إلى تحسين مناخ الأعمال وإصلاح القطاع العمومي في جميع جوانبه؛ تحسين جودة الحكامة على جميع المستويات ومحاربة الفساد وربط المحاسبة بالمسؤولية ونجاعة استعمال الموارد وإرساء ثقافة التقييم..
فاستمرار الفساد في ظل انعدام الشفافية والمنافسة والمحاسبة وهيمنة المقاولات المحظوظة على معظم المشاريع تفقد المغرب سنويا حسب الجمعية المغربية لحماية المال العام حوالي 5% من ناتجه الوطني الخام، والذي ينعكس بشكل سلبي على الاستثمار والاقتصاد وعلى حياة المواطنين.
فتأثير الفساد على النسيج الإنتاجي والمقاولاتي جعل منه بقوة الشيء نسيجا هشا لعدة أسباب، منها ما تطرق إليه تقرير البنك الدولي السالف الذكر، ومنها مالم يتطرق إليه، فأسفل هرم النسيج الإنتاجي والمقاولاتي بالمغرب يتكون من الاقتصاد غير المهيكل، تليه المقاولات الصغرى جدا تم الصغرى تم المتوسطة، وتتربع على أعلى الهرم المقاولات الكبيرة، التي تحتكر هي والشركات التابعة لها الجزء الكبير من الثروة.
فحسب التقرير السنوي2019 ـ 2020 للمرصد المغربي للمقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة، فالمقاولات الصغرى جدا أو المتناهية الصغر تشكل نسبة 92% ولا يتجاوز رقم أعمالها مجتمعة حوالي 4 مليون درهم.
وحسب المعطيات البحثية للمندوبية السامية للتخطيط لسنة 2019 حول استثمارات المقاولات الصغرى جدا والمقاولات الأخرى الصغيرة والمتوسطة، فإن جل استثماراتها تظل ضعيفة.
أما الاقتصاد غير المهيكل الذي يشكل أسفل الهرم الإنتاجي في المغرب، الذي يشمل الإنتاج غير المنظم وإنتاج الأسر لحسابهم ومن ضمنهم "الباعة المتجولون"، فقد أظهرت نتائج دراستين أجراهما بنك المغرب سنتي 2018 و2020، أن هذا النوع من الاقتصاد الخفي يمثل حوالي 30% من الناتج الإجمالي بالمغرب ويمثل هذا النوع من العمل نسبة 79.9% من حجم الشغل الإجمالي حسب معطيات 2019.
فالرشوة وارتفاع الضرائب أكثر من المستوى العالمي وصعوبة الولوج إلى التمويل المالي وصعوبة الحصول على الرخص والبطالة وتهميش المواطنين وغير ذلك من مظاهر الفساد، كلها عوامل ساهمت في تنامي ظاهرة الاقتصاد غير المهيكل بالمغرب.
وبخصوص المجلس الأعلى للحسابات، الذي أعطاه دستور 2011 شأنا كبيرا ووصفه في فصله 147 ’’ بالهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية الذي يضمن الدستور استقلاله’’، فإنه وللأسف مازال خاضعا لقانون صادر في سنة 2002 بناء على دستور 1996، ولم يتم تنزيل أو تغيير قانونه المنظم، كما أنه لا يقوم بدوره في تغطية جميع المرافق العمومية والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على امتداد 12 جهة، بسبب عدم تمكينه من الإمكانيات والموارد المادية والبشرية واللوجستية.
وبعد قيام المجلس بإنجاز تقاريره، فإنه لا يعرف أي شيء عن مصير الأموال المنهوبة، منذ عقود وليست "هناك آليات لاسترجاع الأموال المنهوبة وغياب سيادة القانون على الجميع، ويظل المخالفون والمفسدون في منأى عن أية محاسبة مع الإفلات من العقاب، ويستمر ناهبو المال العام في مراكمة الثروة بطرق غير مشروعة وفي تقلد المسؤوليات العمومية من مواقع مختلفة ويبقى المجتمع مجبرا على تحمل وأداء فاتورة الفساد لتبقى دار لقمان على حالها." حسب رئيس جمعية حماية المال العام.