*اقتصادكم/ د. البزيم رشيد
تلعب الخصائص المؤسسية والحوكمة، علاوة على الظروف الاقتصادية المؤثرة في المنافسة، دورا كبيرا في تصميم سياسة المنافسة. فمن الواضح أن أنظمة المنافسة لا تعمل في عزلة، ومن غير المرجح أن تعمل بفعالية إذا لم تشتغل الهيئات الأخرى بشكل صحيح. ويتطلب تعزيز البيئة التنافسية مؤسسات ذات مصداقية تسمح للمستثمرين الجدد بتحدي الوضع القائم وتحقيق تكافؤ الفرص.
يتفاقم ضعف سيادة القانون بسبب الفساد، الذي يُشار إليه عمومًا كواحد من الحواجز الرئيسية في التقارير المعتمدة دوليًا في الميدان الاقتصادي. وكشف مؤشر مدركات الفساد لعام 2019 الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية، أن أربع دول عربية فقط حصلت على أعلى من 50 درجة على مؤشر مدركات الفساد. ورغم أن العديد منها تتوفر على قوانين لتحسين الوصول إلى المعلومات، لكنها تبقى غير كافية.
وتعتبر فعالية النظام القضائي ذات أهمية خاصة لأن المحاكم تتمتع بسلطة البت في الطعون ضد القرارات المتخذة من لدن مجالس المنافسة (في النظم الإدارية) واتخاذ القرارات في الدرجة الأولى والثانية (في أنظمة المقاضاة). وهذا يعني أن درجة استقلال وكفاءة الجهاز القضائي تلعب دورًا رئيسيًا في التطبيق الفعال مؤشرات التنافسية العالمية.
كما أن للدول والحكومات دورا هاما لتحديد آثارً قانون المنافسة، سواء بشكل مباشر أو من خلال التقييدات والإعفاءات الممنوحة للمؤسسات العامة، ونظرا لان الشركات القائمة تحظى بعلاقات سياسية، فسيكون من الصعب القضاء على المحسوبية. ويكمن الخطر أيضا في التدخل غير المباشر من قبل السلطات في قرارات هيئات المنافسة، مما يحد من استقلالها الفعلي. أو اللجوء إلى تجميد نشاطها من خلال وسائل مختلفة، وهو ما شهده مجلس المنافسة المغربي من 2013 إلى 2018، ومجلس المنافسة الجزائري من 2003 إلى 2013. أما في لبنان، فقد طُرح مشروع قانون المنافسة منذ نحو 14 عاماً ولم يُقَرّ، بسبب قوّة المحتكرين ونفوذهم.
إن كفاءة واستقلالية القضاء أمر ضروري لضمان التنفيذ السليم لسياسة المنافسة. وفي حين أن مسألة استقلالية المحاكم معقدة ولا يمكن حلها ببساطة بموجب قانون المنافسة، فإن إنشاء محاكم متخصصة للغاية من شأنه أن يحسِّن نوعية الدعاوي القضائية مع الحد من خطر سيطرة المصالح السياسية والاقتصادية عليها. وهو ما قامت به كندا وتشيلي وهولندا حيت يسند استعراض قرارات سلطات المنافسة الى محكمة متخصصة تنظر في قضايا المنافسة فقط.
لا تتعلق الجودة المؤسسية بالفساد والمصالح الشخصية فقط. ففي البلدان التي يُنظر إلى هذه الظاهرة على أنها أقل انتشارًا، تحتاج المؤسسات التي تراقب السوق إلى وقت لتهيئيها وبدء عملها بفعالية. وينطبق هذا بشكل خاص على هيئات المنافسة، التي تملك موارد مالية وبشرية محدودة، والتي تكافح من أجل توظيف الخبراء ذوي المهارات المناسبة. وذلك لمواجهة الجهات الاحتكارية، التي تعمل كل ما في وسعها لعرقلة نشاط سلطات المنافسة الحديثة النشأة.
وبدلاً من النظر بتشاؤم إلى فرص نجاح سياسة المنافسة، يجب أن تؤخذ جميع هذه الجوانب في الاعتبار على النحو الواجب في تصميم واشتغال أنظمة المنافسة. ويبدو جليا أن الخصائص المؤسسية للدول العربية، ينبغي أن تتيح لصانعي القرار خيارات عديدة لتصميم السياسات. خصوصا فيما يتعلق ببنية ودرجة استقلالية ومسؤولية سلطات المنافسة. حيث توجد العديد من السمات التي تصيبها بالضعف. ففي جميع دول المنطقة يتم تعيين رؤساء سلطات المنافسة من قبل السلطة التنفيذية. ولم يتم إشراك البرلمانات في هذه العملية. وتتضمن تركيبة هذه الهيئات قضاة في الجزائر والمغرب وتونس وأعضاء معينين من قبل الحكومة في الأردن والمغرب وتونس.
إن الحوكمة الرشيدة وفعالية المؤسسات وسيادة القانون والعدالة، تؤدي إلى تجويد مناخ الأعمال والحد من البيروقراطية وتوفير بيئة مناسبة للمنافسة، وجعل الجهاز الاداري في خدمة المقاولة وليست عبئا عليها، وهو ما يحصل عندما يستشرى الفساد في أي بلد.
لقد سعت هذه الورقة لسد خصاص ملحوظ في الكتابات المتعلقة بأنظمة المنافسة في الدول العربية. من خلال تحديد الأبعاد القانونية والاقتصادية والمؤسسية للمنافسة، وتم توضيح كيف أظهرت الدول العربية من خلال السعي وراء إصدار التشريعات المشجعة على المنافسة والمكافحة للممارسات المناهضة لها، تصورها لمكانتها الاقتصادية وقدرتها التنافسية في السياق العالمي المتغير باستمرار. كما تم التركيز على الطريقة التي تتطلع بها هذه الدول للاعتماد بشكل كبير على سلطات منافسة مستقلة ومسؤولة لزيادة فعالية وحوكمة الاقتصاد، غير أن العراقيل تظل حاضرة، مشوهة فكرة الإصلاح لدى المواطنين والفاعلين.
*أستاذ القانون العام
أعده بتصرف د. كنانة السعيد