الجزء الثالث/ دراسة لأنظمة المنافسة في المنطقة العربية

التحليل والرأي - 07-12-2022

الجزء الثالث/ دراسة لأنظمة المنافسة في المنطقة العربية

*اقتصادكم/ د. البزيم رشيد

إن تطبيق قانون المنافسة غالبا ما يتم من خلال اعتماد نموذجين. الأول هو النموذج الإداري، حيث تتخذ هيئة المنافسة شكل سلطة إدارية مستقلة، تضطلع بالبحث والتحري في القضايا المعروضة أمامها وتتخذ قرارات تنفيذية تخضع للرقابة القضائية. ويعتبر النموذج الإداري الأكثر انتشارًا في دول الاتحاد الأوروبي. أما الثاني فيمكن نعته بالنموذج القضائي. حيث تقوم السلطة الإدارية بإجراء التحري ثم تحيل القضية إلى المحكمة، التي يعود لها اتخاذ القرار على صعيدي الموضوع والعقوبات. 

في بعض الأنظمة القانونية، تم تعديل النموذج الإداري للاستفادة من مزايا الفصل بين مهام التحقيق وإصدار الأحكام. أحيانا، تقوم جهة معينة بالتحقيق في القضية المعروضة، ويعود حق اتخاذ القرار لهيئة أخرى مسؤولة عن ذلك. لكن الملاحظ أنه تم التخلي عن النموذج الإداري المزدوج في بعض دول الاتحاد الأوروبي، مثل إسبانيا والمملكة المتحدة، وذلك أساسا لأسباب تتعلق بالتمويل. وأحالت المادة 25 من القانون البحريني مسألة الطعن في قرارات هيئة تشجيـع وحمايـة المنافسة الى لجنة قضائية مختصة بالطعون في الهيئة. في حين ان القانون الكويتي والقانون الاماراتي احالا الطعن على محكمة مختصة.

وحتى إذا تم الإقرار بأن الاختيار بين النموذجين قد يكون له تأثير على استقلالية ومسؤولية سلطات المنافسة. فإن هذا الأمر يربط أيضا بالخصائص العامة لمؤسسات بلد ما ونوعيتها. ولأنه يُفْتَرَضُ في السلطة القضائية أن تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية عن السلطات العمومية الأخرى وعن مصالح القطاع الخاص، فالنموذج القضائي يكفل أقصى درجات الاستقلالية للهيئة المعنية باتخاذ القرار. ومع ذلك، قد لا يتحقق ذلك إلا على حساب سمات مستحسنة عديدة. فقدرة المحاكم على ممارسة مهامها بشكل فعال في مجال المنافسة محدودة بشدة، بسبب الافتقار إلى الموظفين المؤهلين وخبراء الاقتصاد والموارد والبنية التحتية، وبالتالي فهي ليست في وضع جيد لإجراء تحليلات اقتصادية أكثر تعقيداً. وعموما، فدرجة الاستقلالية التي تتمتع بها سلطة المنافسة هي سمة تميز أنظمة المنافسة في النموذج الإداري. ونظراً للصلاحيات الكبيرة التي تمارسها هيئة المنافسة في هذا الإطار، فمن المهم تحديد مكانتها ضمن المؤسسات العمومية.

من المهم الإشارة أن بعض سلطات المنافسة، تعمل أيضًا كهيئات تقنين قطاعية أو تتمتع بصلاحيات لمراقبة الاشتراء العمومي. غير أنه يستخدم النموذج المتزامن في الجزائر والمغرب في قطاع الاتصالات والطاقة، وفي مصر والاردن في قطاع الاتصالات. وتُعْنى أحيانا بتطبيق تشريعات حماية المستهلك، التي تتضمن قواعد تحظر الاشهار الكاذب والمضلل والممارسات التجارية غير المشروعة.

والحقيقة أنه من أجل التحقق من مخالفات مكافحة الاحتكار، تحتاج هيئات المنافسة إلى مجموعة معقدة من السلطات. تتعلق بالقدرة على جمع وسائل الإثبات والبيانات حول التصرفات غير القانونية للمخالفين؛ ومدى إمكانية فرض الإجراءات التحفظية والغرامات التهديدية والأوامر والعقوبات. واختلفت القوانين العربية بخصوص الجهات او الاشخاص الذين يجوز لهم التقدم بشكوى او مطالبة الى سلطة المنافسة. حيث حدد كل من القانون الاردني والقانون المغربي الاشخاص والجهات التي يجوز لها ذلك بموجب القانون. ومنح القانون الكويتي والقانون المصري والقانون القطري في المقابل الحق لاي شخص ان يتقدم بتلك الشكوى الى الجهة المختصة، فيما ذهب التشريع البحريني والقانون الاماراتي الى السماح لكل ذي مصلحة بتقديم الشكوى وفق الشروط المحددة.

وتتراوح القدرة على القيام بالتحريات والأبحاث بين طلبات بسيطة للحصول على معلومات إلى سلطات موسعة تشمل تفتيش المباني التجارية وغير التجارية عن طريق المداهمات. وتبين دراسة صلاحيات سلطات المنافسة في الدول العربية، انه يمكنها طلب المعلومات واجراء عمليات تفتيش مفاجئة ومصادرة الوثائق. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن لمجلس المنافسة التونسي اصدار اوامر او مذكرات استدعاء عندما تتقاعس منشأة خاضعة للبحث والتدقيق عن التعاون.

ويبدو تصميم الفصل بين مهام التحري وإصدار القرار كضمانات مسطرية، عنصرا أساسيا لاستقلالية سلطات المنافسة. وتتبع مصر والاردن وعمان والكويت الفصل بين مهام التحري واصدار الاحكام في كيانين (السلطة المعنية بالمنافسة والمحاكم (. وفي جميع البلدان الأخرى يظل اجراء التحقيقات واتخاذ القرارات من اختصاص الهيئة، في حين اختار المغرب وتونس الفصل الوظيفي بين المرحلتين المسطريتين: إجراء التحريات وإصدار القرارات.

وتتيح فعالية صلاحيات التفتيش، القدرة على إغلاق المباني، وجمع الأدلة المخزنة في وسائط رقمية وفرض عقوبات على الشركات غير الممتثلة. وتتجلى أهمية ذلك بشكل خاص في رصد الاتفاقات السرية اللامشروعة مثل التكتلات الاحتكارية (cartels) . وقد تُوَظَّفُ أيضا في قضايا الاستغلال التعسفي لوضع مهيمن من طرف المنشآت، حيث يصبح الحصول على خطط أعمال الشركات ضروريا لإثبات الضرر الحاصل عن الممارسات المنافية لقواعد المنافسة.

بمجرد أن تجمع هيئة المنافسة الأدلة المطلوبة، فإنها تحتاج إلى صلاحيات لجعل تنفيذها ساريًا. ويشمل ذلك اعتماد قرارات المنع. وفي بعض الحالات، يمكن اللجوء لفرض تدابير تحفظية ومؤقتة لتفادي إلحاق ضرر بالمنافسة أو نهج إجراءات ظرفية أو بنيوية، لأن مجرد وقف السلوك غير القانوني قد لا يؤدي إلى سوق تنافسية فعالة.

كل هذه الصلاحيات لا معنى لها إذا لم يدعمها نظام عقوبات فعال. قد تتراوح العقوبات من غرامات إدارية على الشركات إلى عقوبات جنائية على الأفراد. وقد تنبع من انتهاك المنع الموضوعي لقانون المنافسة أو عدم الامتثال لجميع السلطات الأخرى المنسوبة إلى هيئة المنافسة، مثل رفض الاستجابة لطلبات الحصول على المعلومات أو انتهاكات التدابير المؤقتة أو إعاقة التحقيقات.

نمت في العقود الأخيرة، المقاربة المستندة إلى التحليل الاقتصادي للقانون، التي تقوم على تطبيق أدوات وأساليب التحليل الاقتصادي على القواعد والمبادئ القانونية بغرض كشف آثارها والكشف في إمكانية تطوير كفاءتها الاقتصادية. قد يكشف التحليل ما إذا كان من المحتمل أن يضر بالمنافسة أو يعزز فعالية الأداء التي تبرر تبنيه. حيت يتم اعتبار أي عمل لا يمس بأسس المنافسة أو يسهم في الرفع من الأداء الاقتصادي مع وجود آثار مناهضة للمنافسة متوافقًا مع قانون المنافسة. ولذلك، فإن حظر التصرفات لن ينطبق إلا على السلوكيات التي من الواضح أن لها تأثير سلبي محتمل على المنافسة ورفاه المواطنين. وهو ما يساهم في إرساء وسط قانوني مناسب للاستثمارات خصوصا في قطاع الأعمال. يهدف هذا التحليل القائم على الآثار إلى استبدال المقاربة القانونية الشكلية الصرفة التي تهدف أساسا لتصنيف التصرفات على أنها ممنوعة أو مسموح بها بناء على خصائص معينة، بأخرى تهتم بفعالية القواعد القانونية. 

وهكذا يلاحظ بالنسبة للاستغلال التعسفي لوضع مهيمن أن قانون المنافسة التونسي لعام 2015 لم يذكر أي معايير اقتصادية لتحديد الهيمنة على السوق ذات الصلة، ولا حتى حصص السوق. ومع ذلك، حدد القانون الحالات التي تعتبرا إساءة للهيمنة وينطبق هذا أيضًا على التشريعات الإماراتية والسورية واليمنية.

ورغم أن المقاربة القائمة على الآثار قد اكتسبت زخما، فإنه من غير المناسب الادعاء بأنها قد حلت محل المقاربة القانونية الصرفة تماما. في الواقع، تواصل هيئات المنافسة الاعتماد على بعض التحليلات القانونية وكذلك على الاجتهاد. على الطرف الآخر، هناك قاعدة العقل (The Rule of Reason) التي تشير إلى أنه رغم اعتبار الاتفاقات المحظورة غیر قانونیة إلا أنه یمكن في بعض الحالات رفع هذا الحظر علیها عندما یتعلق الأمر بالمصلحة العامة والتطور الاقتصادي. وقد أخذ المشرعان الجزائري والمغربي بالترخيص للاتفاقات والممارسات التي یمكن أن یثبت أصحابها أنها تؤدي إلى تطور اقتصادي أو تقني أو تساهم في تحسین الشغل.

أما بالنسبة لسياسة العقاب، ففي النموذج الإداري، قد تتمتع سلطات المنافسة ببعض السلطة التقديرية في فرض العقوبات. يمكن ممارسة هذا التقدير على حد سواء في تعريف العقوبة وفي تحديد الظروف التي تبرر موقفًا أكثر تساهلاً أو أكثر حدة. ويمكن لها أيضًا تبيان الحالات التي قد يتم فيها استبدال العقوبة ببعض أشكال التعاون بين الأطراف.

ومرة أخرى، يمكن تحديد جميع جوانب السياسة هذه، ضمن الحدود التي يحددها القانون، من خلال أدوات القانون غير الآمر (مثل المبادئ التوجيهية). حيث يمكن أن تغطي هذه الأخيرة المعايير العامة من خلال تحديد قيمة الغرامة وفقا لخطورة المخالفة ومدتها. وعلاوة على ذلك، يمكنها أيضا تحديد ظروف التشديد التي تؤدي إلى زيادة العقوبة وظروف التخفيف التي تسمح للطرف بدفع غرامة أقل.

فيما يتعلق بالاستخدام الاستراتيجي لسلطة العقاب من طرف الهيئات، قد يكون ذلك بإنشاء برنامج التساهل للحصول على معلومات حول الاتفاقات السرية لواحد أو أكثر من أعضائه. فبرنامج الرحمة او تخفيف العقوبة الذي يمنح المشاركين في الاتحادات الاتفاقات المحظورة حصانة من العقوبات مقابل الاعتراف والتعاون هو وسيلة مهمة لا تتواجد إلا في مصر وتونس والمغرب. حيث أكدت المادة 41 من القانون المغربي المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة أنه: "يجوز منح إعفاء كلي أو جزئي من العقوبات المالية لمنشأة أو هيئة، قامت مع أطراف أخرى بممارسة محظورة، إذا ساهمت في إثبات وقوع الممارسة المحظورة وتحديد مرتكبيها، من خلال تقديم معلومات لم تتوفر لمجلس المنافسة أو الإدارة من قبل".

غير أن هيئات المنافسة تتوفر على موارد محدودة. وبذلك، لا يمكنها متابعة جميع القضايا ويجب تحديد أولويات أنشطتها. وتتم ترجمة ذلك بوضع استراتيجية رسمية ووثائق التخطيط. وتظهر بعض التجارب أنه يتم تعريف الأولويات بموجب القانون، وهو ما قامت به تركيا.

ومنحت العديد من القوانين العربية الشخصية الاعتبارية لهيئات المنافسة واعترفت لها بالشخصية القانونية على نحو يمكنها التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات كما هو حال قوانين المنافسة البحريني والكويتي والمصري والسوداني والعراقي والمغربي والجزائري والتونسي. ونصت القوانين المغربية والبحرينية والعراقية على الاستقلال المالي والاداري. وذهب الدستور المغربي لسنة 2011 إلى القول بأن "مجلس المنافسة هيئة مستقلة".

أستاذ القانون العام*

أعده بتصرف د. كنانة السعيد