الجزء الثاني/ دراسة لأنظمة المنافسة في المنطقة العربية

التحليل والرأي - 05-12-2022

الجزء الثاني/ دراسة لأنظمة المنافسة في المنطقة العربية

*اقتصادكم/ د. البزيم رشيد


يتم إسناد دور هيئة المنافسة إلى السلطة التنفيذية، وهو الاختيار المتبنى في الولايات المتحدة الأمريكية، ولو بشكل جزئي، إذ أن إحدى وكالتي مكافحة الاحتكار، هو قسم مكافحة الاحتكار التابع لوزارة العدل الأمريكية، وعلى مستوى الاتحاد الأوربي تُعَدُّ المفوضية الأوربية (كجهاز تنفيذي للاتحاد) مسؤول عن تطبيق قانون المنافسة.

من ناحية أخرى، تتمتع هيئات المنافسة بمستوى أقصى من الاستقلالية، مستندة إلى ضمانات تنظيمية تميزها عن الهيئات العامة الأخرى، بالإفلات من سلطة الوصاية التي تمارسها الأجهزة الحكومية، وبتوافر الموارد المالية والبشرية الكافية، وبحرية اعتماد مخططاتها التنظيمية والمالية. 

أمَّا في المنطقة العربية، فالتوجه السائد يتجلى في فصل هيئة المنافسة عن السلطة التنفيذية. باستثناء الأردن، إذ تتبع مديرية المنافسة وزارة الصناعة والتجارة والتموين. ونص القانون القطري على إنشاء لجنة تسمى "لجنة حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية" تتبع الوزير الوصي وتضم في عضويتها عناصر من ذوي الخبرة في المجالات الاقتصادية والمالية والقانونية. وأشارت المادة 12 من قانون المنافسة الاماراتي على ان "لجنة تنظيم المنافسة" تكون برئاسة وكيل وزارة الاقتصاد.

كما يتبع "جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار" اليمني وزارة التجارة والصناعة. أمَّا "مجلس المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية" السوداني فيظل خاضعا لوزير التجارة ومعتمدا على وزارته في توفير الطاقم البشري للمجلس.

وبما أن درجة استقلالية سلطات المنافسة تختلف إلى حد كبير في النموذج الإداري، فالأمر نفسه ينطبق على منزلة مسؤوليتهاـ أي أن اشكالية "من سيراقب المراقبين" تظل حاضرة وإن كانت ترتبط بعوامل أكثر تعقيدا. فمقابل تمتعها بنوع من الاستقلالية، يصبح من المهم تقرير التدابير التي يجب اتخاذها لضمان مسؤوليتها أمام العموم، وذلك بفرض متطلبات الشفافية، من خلال مطالبتها بتقديم تقارير دورية إلى البرلمان أو الحكومة. 

وفي بعض الحالات، تكون مطالبة بتقديم مخططات العمل للسنوات القادمة. ويمكن أن يتيح ذلك أيضا فرصة لتعزيز الحوار مع مختلف الفاعلين، وهي مسألة ضرورية لنشر ثقافة المنافسة، وضمان ألا تتحول هيئة حماية المنافسة إلى صوت غير مسموع. ونص كل من القانون العماني والسوري على ضرورة نشر القرارات الصادرة عن سلطات المنافسة في جريدتين تصدران يوميا.

لكن الملاحظ، أن التقارير لا تحترم توقيت صدورها، وغالبا ما تكون طويلة دون أن تُرفق بالآثار المرجوة. كما تظل مسألة تحديث المواقع الالكترونية للهيئات ونقصان التفاصيل المتعلقة بالقرارات مطروحة بقوة. وسعيا منها لشفافية أكبر في طرق اشتغالها، قامت سلطات المنافسة في مصر والاردن والمغرب بنشر الخطوط التوجيهية لسياساتها المسطرة لتنفيذ مقتضيات قوانين المنافسة.

وعموما، يحتوي قانون المنافسة بشكل عام على ثلاث مجموعات من قواعد الحظر، تتعلق بالاتفاقات المنافية للمنافسة، وقيام منشأة أو مجموع منشآت بالاستغلال التعسفي لوضع مهيمن، والمراقبة القبلية لعمليات التركيز الاقتصادي. ومن الملفت للنظر جدا أن نلاحظ التقارب بين القواعد الموضوعية لقوانين المنافسة في العالم، على الرغم من العديد من الاختلافات بين البلدان من حيث النظم الاقتصادية والقانونية والسياقات الثقافية. 

من الناحية التاريخية، حتى في أكثر التجارب المتطورة لحماية المنافسة، لم يتم تطبيق نظام مراقبة التركيزات إلا بعد عقود من سن قانون المنافسة العام في مرحلة أولى. ومع ذلك، وضعت البلدان العربية لتي تبنت قوانين المنافسة في الآونة الأخيرة نظامًا لمراقبة عمليات التركيز منذ البداية. حيث أكد قانون المنافسة السعودي أن الموافقة على الاندماج أو الاستحواذ وكافة أشكال التركز الاقتصادي بين منشأتين فأكثر، هو أحد اختصاصات الهيئة العامة للمنافسة. ويُلاحظ غياب مراجعة عمليات الاندماج في مصر من قبل جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، لإنه لا يمكنه التصرف إلا بعد الانتهاء من عملية الاندماج شريطة إخطاره. لكن الحكومة المصرية قدمت سنة 2020 مشروع قانون معدل لقانون المنافسة يعطي جهاز المنافسة صلاحيات بخصوص الاستحواذ والتركز، والإخطار القبلي للحصول على الموافقة المسبقة، وذلك وفق عدد من المحددات. وهو ما يظهر مسألة تعدد المرجعيات لتنظيم المنافسة في الأسواق.

من القرارات الهامة الواضحة التي ينبغي اتخاذها عند تصميم نظام سياسة المنافسة، نطاق التطبيق المخول لسلطة المنافسة. أي جميع العمليات التي يمكن لسلطة المنافسة أن تفحصها للتحقق من توافقها مع أحكام القانون. وتحتفظ كل من الجزائر والمغرب وتونس ومصر والاردن والكويت بالحق في تحديد سعر سلع معينة من خلال استثناءات مضمنة في القوانين، في حين يظل المبدأ هو تحديد أسعار السلع والمنتوجات والخدمات عن طريق المنافسة الحرة. 

ويبرر تدخل السلطات العمومية هذا في السوق باحتكار قانوني وإما بفعل دعم الإدارة لبعض القطاعات أو المواد عند الإنتاج أو التسويق أو بفعل صعوبات دائمة في التموين وإما نتيجة أحكام تشريعية أو تنظيمية. في حين ينص القانون الكويتي على جعل قطاع النفط احتكارا قانونيا خارج نطاق قانون المنافسة. وتم استثناء الاتصالات والقطاع المالي والنفط من تطبيق قانون المنافسة الإماراتي. كما يُسمح بالاحتكارات القانونية في الجزائر والمغرب وتونس. وينص القانون المغربي رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة في مادته الخامسة، أنه "يمكن بطلب من المنظمات أو الغرف المهنية الممثلة لأحد قطاعات الأنشطة أو بمسعى من الإدارة، أن تكون أسعار السلع والمنتوجات والخدمات محل تصديق من قبل الإدارة بعد التشاور مع المنظمات المذكورة". 

ويبين تحليل نطاق تطبيق قوانين المنافسة في الدول العربية، اعتمادها على المعيار الوظيفي المادي لعملياتها وتصرفاتها، بدل المعيار العضوي. لكن هذا لا يمنع تركيزها على ملكية رساميل المنشآت، إذ استثنت السعودية المؤسسات العامة والشركات المملوكة للدولة بالكامل من نطاق قانون المنافسة، مشترطة أن تكون مخولة وحدها من الحكومة بتقديم سلعة في مجال معين، في حين استثنت مصر وعمان أنشطة المرافق العامة التي تمتلكها وتديرها الدولة بالكامل. 

وتضمن القانون البحريني عدة استثناءات لاعتبارات تقتضيها المصلحة العامة. وبالإضافة إلى عدم دقة مفهوم المصلحة العامة من وجهة قانونية، فمن شأن كثرة الاستثناءات أن تفرغ القوانين من مضمونها بدل أن تمنحها المرونة اللازمة، إذ يمكن تحريفها بسهولة لحماية المصالح الخاصة الريعية، التي يمكن مزاولتها بكفاءة وفعالية أكبر في الأسواق التنافسية، وبالتالي، فإن نطاق هذه الاستثناءات هو خيار هام أمام واضعي سياسة المنافسة، ومن الواجب إرساؤه بناء على تقييم دقيق ومتزن. 

وعلاوة على ذلك، يفترض بسلطات المنافسة العمل على نشر مبادئ المنافسة والدفاع عنها، حتى لو كان القانون يمنعهم من فرض قواعد المنافسة على المؤسسات التي تهتم بخدمة الصالح العام، من أجل إقناع المشرعين وصانعي السياسات بتجنب القيود غير الضرورية للمنافسة، والحقيقة أن نظام سياسة المنافسة يعتمد على الفعالية التي يتم بها تطبيق هذه المعايير.

أستاذ القانون العام*

أعده بتصرف د. كنانة السعيد