*بقلم: الدكتور إحسان الحافظي
منذ سنتين تقريبا، والتونسيون يتحسسون رؤوسهم جراء حالة الهرولة التي يستعجلها النظام التونسي نحو العساكر في الجزائر. كل النخب التقليدية التي عايشت التحولات السياسية في منطقة شمال المغرب العربي تعلمت منذ عهد الحبيب بورقيبة وبعده الرئيس زين العابدين بنعلي أن النظام العسكري في الجزائر غير موثوق ولا يمكن الرهان عليه، وحتى حينما أدان الاتحاد الأوربي ابتزاز الجزائر لإسبانيا بالغاز إبان انتهاء الأزمة السياسية بين الرباط ومدريد، كان ذلك تحصيل حاصل وتأكيد ليقين. فالنخب التونسية في أحاديث الصالونات تعرف جيدا أن الحكام في الجزائر يلعبون ورقة الغاز والأمن من أجل ابتزاز شركائهم. فعلوا ذلك مع اسبانيا وقبلها فرنسا ثم مالي وموريتانيا، نظام يستغل حدوده مع أكثر من دولة لجعلها وسيله لزعزعة الاستقرار في القارة وإضعاف الدول المجاورة في إطار مخططات وأجندات تضمر الشر لكل جيرانها في شمال إفريقيا والساحل الافريقي.
ضمن هذا التصور يبدو ما أقدم عليه النظام التونسي باستقباله زعيم ميليشيا بوليساريو ضدا على الترتيبات والبروتوكول المعمول به في كل قمم "تيكاد" للشراكة اليابانية الافريقية، خيارا انتحاريا يجر تونس نحو مخطط الشر. فهو يخرجها عن حيادها الذي طالما استفادت منه اقتصاديا (الميزان التجاري بين الرباط وتونس يميل لصالح تونس بنحو 229 مليار سنتيم مقابل 129 مليار سنتيم للمغرب، حسب أرقام مكتب الصرف برسم سنة 2021)، حياد جنب تونس في الكثير من اللحظات الاصطدام بمشكلتها الجغرافية.
بتعبير علم السياسة لا يعدو أن يكون ما حدث أكثر من "مناورة" تحقق انتصارا وهميا تعزز به الجزائر موقفها العدائي التاريخي للمغرب، محمولا فوق أكتاف النظام التونسي هذه المرة. فالتآمر الجزائري التونسي ضد المغرب، وفي هذا التوقيت، يبقى بدون أثرٍ قياسا بالمواقف الدولية الداعمة لمغربية الصحراء، علنا أو ممارسة، كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واسبانيا ودول الخليج وبلدان الاتحاد الأفريقي… وسط هذا الزخم الذي حققه المغرب في انتصاره لقضيته الوطنية كان طبيعيا أن يناور خصوم الوحدة الترابية، وهذا أمر مألوف يكلف خزينة النظام الجزائري الملاييو سنويا، لكن المستجد هذه المرة أن النظام العسكري استعار دولة بأكملها، هي تونس، للقيام بالمناورة بالوكالة عن النظام الجزائري، ووجدوا في رئيس انقلب على المشروعية باسم الشرعية كل الجاهزية للقيام بهذه المهمة القذرة!
من يتابع ردود الفعل التونسية حول الأزمة المفتعلة من قبل النظام الجزائري بين المغرب وتونس، يلاحظ أنها انقسمت الى قسمين: ردود عاقلة تحذر من مخاطر الانجرار إلى سياسة المحاور في شمال افريقيا والتداعيات السلبية التي تحملها خيارات الانحراف عن الحياد الايجابي بوصفه الخيط الناظم للدبلوماسية التونسية منذ الاستقلال في العلاقة مع بلدان المغرب العربي. وردود فعل متهافتة تستنسخ، على مستوى الخطاب والتحليل، نفس ما يردده النظام الجزائري وأبواقه في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. وهذا يؤكد فرضية أن الاختراق الجزائري ليس مسألة نظام فقط بل يطال آليات اشتغال هذا النظام أو ما يسمى تونسيا بمساندي الانقلاب على الشرعية.
من المؤكد أن الصورة التي بنتها تونس في سنوات طويلة تضررت لدى المغاربة بفعل هذا السلوك المختل. وربما لو كان قرارا سياديا ووطنيا، لم تستبقه مقدمات عدائية تونسية، لوجد التونسيون (العقلاء) لأنفسهم ما يدافعون به عن نظام وقع تحت الوصاية الجزائرية بفعل تأثير أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية ومالية خانقة. لكن يبدو أن المواقف الشخصية لا تتسق دائما مع مواقف النظام خاصة حينما يكون هذا النظام يعاني أزمة شرعية.
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن داخل النظام التونسي: ماذا بعد هذه المناورة؟ هل يَقدر هذا النظام على الذهاب بعيدا في عدائه للمغرب؟ وهل يُقدر حقيقة مخاطر الارتماء في حضن نظام سياسي عسكري يقمع معارضيه ويُشعل النار في غاباتهم ويتهم الهاربين منهم إلى الخارج بالإرهاب. هل هذا هو النموذج الذي ناضل من أجله الشعب التونسي وهو يشعل ثورته إيذانا بربيع عربي؟ لا خيار أمام النظام إلا مراجعة حساباته واعادة تقديرها وبناء اقتصاد مستقل عن خزينة نظام عسكري يعيش على ريع عائدات الغاز، واستعادة قراراها الوطني السيادي، قبل فوات الأوان حينها سيكون الأمر صعبا بل ومكلف!
خبير العلوم الأمنية وأستاذ القانون والعلاقات الدولية*