اقتصادكم
أربكت النشرات الإنذارية المتناسلة حول موجات الحرارة أخيرا، حسابات الفاعلين الاقتصاديين باختلاف أحجامهم، فتداعيات التغيرات المناخية لم يعد أحد بمنأى عنها، سواء في المغرب أو باقي أنحاء العالم. ويكفي في هذا الباب استقراء تقديرات باحثي جامعة "دارثموت" الأمريكية حول الكلفة الاقتصادية لتغير المناخ، للوقوف على فاتورة تتراوح قيمتها بين 5 آلاف مليار دولار و29 ألف مليار، خلال الفترة بين 1992 و2023.
في المغرب تتمدد انعكاسات موجات الحرارة إلى أكثر من نشاط وقطاع، وتختلف كلفتها بقياس حجم الأضرار التي تخلفها، في ظل غياب أي دراسات عملية أو معطيات رسمية حول قيمة هذه الأضرار والخسائر. درجات الحرارة قفزت إلى مستويات قياسية لتناهز 47 درجة مئوية في بعض المناطق، ما أثر بشكل غير مباشر على سير مجموعة من الأنشطة الاقتصادية.
بالنسبة إلى محمد جدري، الباحث والخبير الاقتصادي، يمثل الإجهاد المائي أبرز كلفة يتحملها الاقتصاد الوطني جراء موجات الحرارة المتكررة. من وجهة نظره الخاصة، يمكن أن يتسبب في اضطرابات بسيرورة أنشطة صناعية، خصوصا الصناعات الغذائية، ويهدد مناطق بالعطش.
جدري عاد ليقلب العملة إلى الوجه الآخر، ويتحدث في المقابل لـ"اقتصادكم"، عن تأثير إيجابي تخلفه موجات الحرارة المتكررة على أنشطة اقتصادية بعينها. يتعلق الأمر تحديدا بالسياحة، إذ تشهد الفنادق والمطاعم والمسابح، إقبالا كبيرا في ظل هذه الظروف المناخية، المتزامنة في أغلب الأحيان مع العطلة الصيفية.
لا يمكن حصر تداعيات الإجهاد المائي كجزء من كلفة موجات الحرارة في الأنشطة الصناعية التي تعتمد على الماء فقط، وإنما بدرجة أولى ترتبط بالقطاع الفلاحي. بحسب الخبراء، تشكل موجات الحرارة المتوالية، ضغطا إضافيا على المخزون المائي للبلاد، خصوصا الموجه إلى السقي، إذ يتواصل المنحى التراجعي لحقينة السدود، بسبب ارتفاع نسبة التبخر التي تمثل أحد العوامل الرئيسية في التراجع السريع للموارد المائية.
ووفقا للأرقام التي أعلنت عنها وزارة التجهيز والماء على بوابتها الإلكترونية، فإن نسبة ملء السدود بلغت 28.6 %، في الوقت الذي كانت تقدر بـ29.1 % قبل أسبوع فقط.
وبهذا الخصوص، يتحدث محمد بنعبو، خبير في المجال البيئي والمناخي، عن ارتباط تراجع حقينة السدود أساسا بـ”عوامل مناخية”، مبرزا، بأنه "كلما كانت هناك موجات حرارة استثنائية، كان احتمال تراجع حقينة السدود وتبخرها كبيرا جدا".
ويضيف بنعبو لـ "اقتصادكم"، أن ظاهرة التوحل تلعب دورا أساسيا في تراجع حقينة السدود سنة بعد أخرى، وليس هناك حلول تسير بشكل متوازي مع الإجهاد المائي، الذي تعاني منه المملكة، موضحا أن إمكانية حماية السدود تظل قائمة عبر التشجير أو القيام بمجموعة من العمليات لحماية السدود، في انتظار مشاريع تساعد على حماية السدود من الإجهاد المائي.
الخسائر على الأرض لا يمكن التعرف على حقيقتها إلا من خلال المهنيين. وبهذا الخصوص يتحدث عادل، فلاح، بمنطقة الشاوية، عن تضرر محصوله الفلاحي بسبب موجات الحرارة، مضيفا في تصريح لـ"اقتصادكم"، أن ارتفاع درجة الحرارة، أثر بشكل سلبي على مردودية الزراعات المسقية، إذ تراجع محصولها بسبب التغير المناخي، خصوصا الفواكه، مثل المشمش والخوخ، التي تفاقمت وضعيتها بسبب الأمراض والحشرات الضارة من جهة أخرى.
قطاع آخر يعيش منذ سنوات على وقع أزمة هيكلية، مرتبطة بالطلب والتمويل، عمقت موجات الحرارة المتتالية معاناته. يتعلق الأمر بالقطاع العقاري، الذي شهد عدد كبير من أوراشه جمودا بسبب التغيرات المناخية، التي أجبرت المقاولين على تخفيض ساعات العمل، وتسببت في نقص اليد العاملة، وتأخر مواعيد تسليم المشاريع.
وبهذا الخصوص، يربط أحمد كنام، مقاول بالدار البيضاء، في تصريحه لـ"اقتصادكم"، ضعف إنتاجية اليد العاملة بموجات الحرارة مباشرة، باعتبار تعرض العمال لمخاطر جسدية مزمنة ناجمة عن العمل تحت ظروف مناخية صعبة.
وتظل الكلفة الأكثر فداحة لموجات الحرارة مرتبطة بالفتورة الصحية. وفي هذا الشأن، تتحدث ثريا تمارة، طبيبة عامة في البيضاء، لـ"اقتصادكم"، عن تأثر صحة الإنسان ومردوديته ونشاطه بالتغيرات المناخية، موضحة بالقول، "الحرارة الشديدة تبطيء تفكير الانسان، وبالتالي يضعف تركيزه، ويصبح التنسيق بين اليد والعين متوقفا، الأمر الذي يزيد احتمالات ارتكاب الإنسان لأخطاء حركية عند مزاولته لأي نشاط".
وأضافت الطبيبة، بأن التعرض للحرارة، يمكن أن يتسبب خسائر أيضا في إزهاق الأرواح، خاصة عند تعرض المصابين بأمراض مزمنة مثل مرض القلب، داء السكري، وغيرها للأشعة فوق البنفسجية، التي تتسبب في نوبات قلبية وضيق في التنفس، فضلا عن الإصابة بأمراض جلدية خطيرة.
وفي ظل غياب أي أرقام دقيقة حول الكلفة الاقتصادية لموجات الحرارة بالمغرب، يظل استقراء تداعياتها على قطاعات وأنشطة مختلفة مجالا خصبا للتعرف على مدى خطورتها، وتثمين الجهود التي يبذلها المغرب في تنفيذ مشاريع لمواجهة التغيرات المناخية، وتقليص قيمة الفتورة التي يمكن للأجيال المقبلة دفعها.