اقتصادكم
أطلقت الحكومة عملية “المساهمة الإبرائية”، والتي تهم التسوية التلقائية برسم الممتلكات والموجودات المنشأة بالداخل و الخارج، تطبيقا لمقتضيات المادة 8 من قانون المالية رقم 23-55 برسم سنة 2024.
وتهم العملية بحسب مكتب الصرف، الأشخاص الذاتيين والاعتباريين المقيمين الذين يتوفرون على إقامة مالية أو مكتب مسجل أو مقر مالي في المغرب، والذين اكتسبوا ممتلكات وأموال في الخارج بطريقة تخالف قانون الصرف قبل فاتح يناير 2023.
في هذا الصدد، يمكن للأشخاص المعنيين بعملية التسوية التلقائية تقديم تصريحهم، بدون الكشف عن هويتهم، إلى البنك الذي يختارونه، وفقًا لنموذج تم تحديده مسبقًا من قِبل مكتب الصرف وقد تم تحديد نسب المساهمة الابرائية وفقا لأحكام قانون المالية لسنة 2024.
وفي هذا الحوار، يجيب الخبير الاقتصادي علي الغنبوري، رئيس مركز الاستشعار الاقتصادي والاجتماعي، على مدى نجاح المساهمة الإبرائية، وأهدافها ، وافاق تأثيرها على الوضع المالي للمملكة.
كيف تقيمون نجاح الإجراء الحكومي الخاص بالمساهمة الإبرائية في تحقيق أهدافه؟
نجاح هذا الإجراء يمكن قراءته من زوايا مختلفة ومتداخلة، فمن الناحية المالية الأرقام المعلنة تظهر إقبالا كبيرا حيث تم جمع أكثر من 2 مليار درهم خلال 72 ساعة فقط، وهذه المؤشرات تعكس جدوى الإجراء في تعبئة موارد مالية كبيرة خلال فترة وجيزة، ما يعد إنجازا لافتا يعزز خزينة الدولة، خاصة في سياق اقتصادي يتطلب تمويلا مستداما للمشاريع التنموية وتقليص العجز المالي.
ومع ذلك النجاح الحقيقي يتجاوز الأرقام، بل يتعلق الأمر بمدى قدرة هذه المبادرة على تحقيق أهداف أعمق، مثل ترسيخ ثقافة الالتزام الجبائي وإحداث تغيير في العلاقة بين المواطن والإدارة الضريبية، فهذه الأهداف ترتبط بإرساء قواعد العدالة والشفافية الجبائية التي تحفز المواطنين على الالتزام طواعية دون انتظار مبادرات استثنائية.
التحدي الأكبر يكمن في استثمار هذا النجاح المرحلي لتعزيز الثقة بين الطرفين، حيث يجب أن تكون هناك متابعة دقيقة لضمان استمرار الالتزام الجبائي، مع تحويل هذه المبادرة إلى رافعة لإصلاحات جبائية أعمق وأكثر شمولية، وتحقيق ذلك يتطلب اعتماد إجراءات طويلة المدى، تشمل تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين وتوجيه العائدات إلى مشاريع تنموية ملموسة تُشعر المواطن بالأثر الإيجابي المباشر لإسهاماته الضريبية.
لذلك، يمكن القول إن النجاح الأولي للمساهمة الإبرائية واضح، لكنه يمثل خطوة ضمن مسار أطول يتطلب عملاً مستمراً لتعزيز الشفافية، ترسيخ الالتزام، وبناء الثقة كركيزة أساسية لأي نظام جبائي مستدام.
هل يمكن اعتبار هذا التفاعل الكبير مؤشرًا على رغبة المواطنين في تسوية أوضاعهم الضريبية بشكل دائم، أم هو استجابة لظرف استثنائي؟
التفاعل الكبير مع المساهمة الإبرائية يعكس ظاهرة مركبة يمكن قراءتها من منظورين رئيسيين، فمن جهة يمكن اعتباره مؤشرا إيجابيا على وجود رغبة حقيقية لدى شريحة واسعة من المواطنين لتسوية أوضاعهم الجبائية، وهو ما يعكس إدراكا متزايدا لأهمية الالتزام الضريبي، خاصة أن هذه المساهمة تقدم فرصة لتسوية الوضعية بأقل كلفة، مقارنة بالعقوبات والغرامات التي قد تفرض في حالات التهرب الضريبي.
ومن جهة أخرى، لا يمكن إغفال العامل الظرفي الذي لعب دورا مهما في دفع هذا التفاعل، حيث جاء الإجراء مصحوبا بمهلة زمنية محدودة وضغوط نفسية وقانونية لتحفيز المواطنين على الانخراط فيه، بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المغرب، بما في ذلك التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا و توالي سنوات الجفاف ، والتحديات المالية العامة، ربما دفعت إلى البحث عن حلول سريعة لتعبئة الموارد المالية للدولة، مما جعل هذا الإجراء يبدو كفرصة سانحة أكثر منه خيارا طويل الأمد.
لكن التحدي الأكبر يكمن في ضمان استدامة هذا الالتزام على المدى الطويل، فنجاح مثل هذه المبادرات لا يتوقف عند تحقيق عائدات مالية مؤقتة، بل يتطلب بناء نظام ضريبي أكثر شفافية وعدالة، ولتحقيق ذلك، ينبغي للحكومة أن تواصل تحسين علاقتها مع المواطنين، سواء من خلال تطوير وسائل التوعية بحقوقهم وواجباتهم الجبائية، أو عبر تقديم ضمانات واضحة حول توجيه العائدات الضريبية إلى مشاريع تنموية ملموسة تعود بالنفع على المجتمع ككل.
ما هي التداعيات المحتملة لهذه المساهمة على النظام الاقتصادي بشكل عام، وعلى العلاقة بين المواطن والإدارة الضريبية بشكل خاص؟
اقتصاديا، تعد المساهمة الإبرائية إجراء يمكن أن يكون له تأثير إيجابي مباشر على ميزانية الدولة من خلال تعزيز السيولة في الخزينة العامة، ما قد يمكن الحكومة من توسيع استثماراتها في مشاريع تنموية استراتيجية مثل البنية التحتية، التعليم، والصحة، أو المساهمة في تقليص عجز الميزانية العامة، مما يعزز الاستقرار المالي والاقتصادي، كما أن تدفق هذه السيولة في وقت قصير قد يساهم في تحسين التصنيف الائتماني للمغرب على المستوى الدولي، مما يفتح المجال لاستقطاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن نجاح المساهمة الإبرائية يمكن أن يشكل نقطة تحول في العلاقة بين المواطن والإدارة الضريبية، فهو يعكس توجها نحو تبني مقاربة أكثر مرونة وواقعية في معالجة مشكلات التهرب الضريبي، ما قد يعيد بناء الثقة التي تضررت بسبب الشعور بعدم عدالة النظام الضريبي، فهذه الثقة يمكن أن تعزز التزام المواطنين بالواجبات الجبائية في المستقبل، خاصة إذا شعروا بأن الإدارة الضريبية تعتمد الشفافية والإنصاف في تعاملاتها، وأن العائدات توجه إلى تحسين الخدمات العامة والبنيات الأساسية التي يستفيد منها الجميع.
ومع ذلك، و كما سبق و ان تطرقت له فإن هذا التأثير الإيجابي ليس مضمونا على المدى الطويل ما لم تتبع الحكومة هذا الإجراء بإصلاحات هيكلية حقيقية، حيث يجب التركيز على تعزيز العدالة الضريبية من خلال مكافحة الامتيازات غير المبررة لبعض الفئات، وتحسين كفاءة الإدارة الجبائية، وضمان توجيه العائدات نحو مشاريع ملموسة تحدث فرقا في حياة المواطنين، وبالتالي يمكن لهذه المساهمة أن تكون بداية لتطور إيجابي في النظام الاقتصادي والاجتماعي، لكن نجاحها يعتمد على الإرادة السياسية لإجراء إصلاحات أعمق تحول الالتزام الضريبي من مجرد إجراء قانوني إلى ممارسة مواطنة تستند إلى الثقة والشفافية المتبادلة.
هل تعتقدون أن مثل هذه المبادرات كافية لمعالجة ظاهرة التهرب الضريبي في المغرب، أم أن هناك حاجة إلى إصلاحات أعمق في النظام الجبائي؟
المبادرات مثل المساهمة الإبرائية تعد إجراءات مهمة في المدى القصير، حيث تساهم في تعزيز المداخيل الضريبية بشكل سريع وتوفر حلا عمليا لبعض القضايا المرتبطة بالتهرب الضريبي، لكنها تبقى حلولا ظرفية لا تعالج الجذور العميقة للمشكل، معالجة ظاهرة التهرب الضريبي بشكل مستدام تتطلب تبني إصلاحات هيكلية عميقة وشاملة للنظام الجبائي.
أولا، يجب العمل على تقليص الفجوات القانونية التي تتيح لبعض الأفراد والشركات استغلال الثغرات للتهرب من أداء واجباتهم الضريبية، حيث يتطلب ذلك مراجعة شاملة للقوانين والأنظمة الجبائية لضمان انسجامها مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.
ثانيا، توسيع القاعدة الضريبية بشكل عادل يعد خطوة أساسية، وهو ما يعني تقاسم العبء الضريبي بشكل منصف بين مختلف فئات المجتمع، مع التركيز على إلغاء الامتيازات غير المبررة لبعض الفئات الاقتصادية، وضمان أن الجميع يساهم وفق قدراتهم المالية الحقيقية.
ثالثا، تبني نظام رقمي متطور لإدارة وتحصيل الضرائب، فالاعتماد على التكنولوجيا يمكن أن يحسن كفاءة النظام الجبائي بشكل كبير، من خلال تقليل التدخل البشري، وتسهيل تتبع المداخيل والنفقات وتعزيز الشفافية والمصداقية.
رابعا، تحسين العلاقة بين المواطن والإدارة الضريبية، وهو ما يتطلب سياسة تواصلية فعالة تبرز للمواطنين عدالة توزيع العبء الضريبي وتوضح كيف تستخدم العائدات الضريبية في تحسين الخدمات العامة والبنيات الأساسية، فعندما يشعر المواطنون بأن نظام الضرائب عادل وأن إيراداتهم تستخدم لتحقيق التنمية الشاملة، فإن التزامهم الجبائي سيزداد بشكل طبيعي.
خامسا، تعزيز إجراءات الرقابة والعقوبات المرتبطة بالتهرب الضريبي، حيث يجب أن تكون هذه العقوبات واضحة وحازمة لضمان الالتزام بالقوانين، مع تبني نهج وقائي يشمل التوعية والتحسيس بأهمية الالتزام الضريبي.
باختصار، المبادرات الظرفية مثل المساهمة الإبرائية مفيدة، لكنها لا تكفي لمعالجة ظاهرة التهرب الضريبي بشكل جذري، الإصلاح الشامل الذي يركز على العدالة، الشفافية، والرقمنة هو السبيل الوحيد لبناء نظام جبائي مستدام يساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.