اقتصادكم
كانت مساءات الخميس ذات طعم مميز، بحيث يكون لنا موعد عائلي شبه طقوسي مع التلفزيون، لأجل التمعن في طبائع البشر. كثيرا ما حفزت أفلام الرعب مفكرتي بسبب أبعادها الغامضة.
نحب رؤية لحظة ارتكاب الجريمة، انتظار نتيجة المؤامرة خاصة عندما يتدخل القدر في اللعبة، ما يشكل قمة التشويق. في سنوات الصبا، لم نكن نرغب في معرفة من الذي قتل المرأة صاحبة الشعر الطويل في مدخل الممر المنمق. تمشي برأس منحني وهي تجتر أفكارا سوداء عن الخيانة، فجأة يظهر خلفها ظل كبير الحجم يميل عليها ويطعنها بظهرها، لا أحد يعرف من يكون صاحب الظل، لكن الله يعرف ويظل هو الشاهد الوحيد على جريمة نجهل من ارتكبها. ألا يستطيع التلفزيون إخبارنا؟ يقول لي حسن مرتعبا ونحن نجلس حول الطاولة مساءا. أجابته أمي بجفاء بأنه لا يجوز التكلم أثناء مشاهدة الفيلم. المزيد أيضا عندما يخترق السكين جلد المرأة التي تجتر أفكارها في الظلام، ونرى قطرات الدم الأسود تسيل على الفستان.
يريد حسن أيضا أن يعرف لماذا كان الدم أسودا ولم يكن أحمرا. كان على أمي أن تشرح له مجددا أن ذلك خطأ التلفزيون الذي لا يحتوي إلا على لونين الأسود والأبيض. لا شيء بالإمكان فعله ليفهم صديقي العزيز حسن. الأسود لا يمكن أن يكون أحمرا ولا الأبيض، لأن الأبيض هو لون فستان المرأة، ولهذا من المفروض أن تقرر بين الأسود والأحمر، وهلم جرا لمدة ربع ساعة كاملة حتى لحظة الحلويات السعيدة. هنا أيضا يميل حسن إلى الحلويات الزرقاء، كان يقول بأن لها مذاق أخته وحتى رائحتها. كان يجب أن تمر عشرون عاما، لأتمكن من فهم العلاقة بين الحلويات الزرقاء لمساء الخميس وبين رائحة أخته سلمى، حدث ذلك بتركيا، في ليلة باردة جدا مع بداية موسم الثلج، كان هناك حديقة صغيرة تحت الشرفة اتخذت حلتها البيضاء من الثلج، كنت أغسل ثيابي على نفس الشرفة عندما راودتني رؤيا واضحة عن أختي التي كانت تتميز بطريقتها الجميلة في غسل الملابس المتسخة، وهي تضحك مثل ملاك. أحسست رائحة ضحكتها في مسحوق الغسيل، ظننت للحظة أنني سمعت صوتها وبكيت من الغبطة والحنين وحبي الأخوي البعيد لها.
باختصار، أم علي لم تسأله يوما عن المال، ما دام ذلك يساعد في سد بعض ثغرات العيش، ما يحدث في الشارع لا يعنيها أبدا، عدا ذلك لم يكن علي يسرق أحدا، كان عمله شريفا، يمنح للأطفال من سنه بعض البهجة، مقابل بعض القطع التي يستلها منهم، لأنهم كانوا يحصلون من ذويهم على النقود قبل الذهاب إلى المدرسة، بينما هو لم يكن بإمكانه ذلكᴉ يجب أن تتدبر أمر نفسك، أن تبرهن على جدارتك أو تهلك، لا للتهميش أو تهلك، لأنك تستطيع أن تمشي طول حياتك دون جدوى. في الحي المحمدي يجب أن تكد وتعمل في سن صغيرة، أو تنتف ريش الآخرين. أن تتحول إلى بائع حشيش أو بائع سجائر أو تبيع مؤخرتكᴉ ما من اختيار آخر.
كانت الصراصير قد أدت واجبها على أكمل وجه، وحينما يموت أحد هؤلاء المهور، يستبدل في الحال بآخر، يقبض عليه من المزاريب بالشارع، وطبعا عندما يأتي زائر جديد ليستقر بعلبة الثقاب، يهاجمه ابن جلدته لترهيبه أو القفز عليه لالتهامه، أحيانا تصبح هذه الحيوانات الصغيرة متوحشة عندما يتعكر مزاجها وأحيانا تصاب بالحزن بعد موت أحدهم إثر حادث ما، تصبح أكثر قربا من بعضها البعض في قمراتها الصغيرة، حيث تصبح الروابط بينها ذات أبعاد إنسانية تقريبا.
يجب أن نعلم أن الاحترام يكتسي أهمية كبرى بين الصراصير، فهم لا يهتمون بما يمكن أن يتحملوه من شقاء، ولا كيف ندفعهم إلى مبارزة جسدية قاسية، ما يطلبونه بالمقابل هو الاحترام وتقدير خدماتهم. صرصار هو تقريبا انسان. يجب ملاحظته لساعات طويلة لرؤية اللوحة الكاملة لصنائعه. صرصار هو انتصار للطبيعة، أكثر قدرة على البقاء من الإنسان نفسه، ما يعني أكثر بكثير من الاحترام.
يتبع...
