الشطر الثامن من الفصل : الشيطان موجود في التفاصيل للرواية أراضي الله

لايف ستايل - 09-03-2024

الشطر الثامن من الفصل : الشيطان موجود في التفاصيل للرواية أراضي الله

اقتصادكم

 

 كان علي موهوبا في اختراع العبارات اللامعة مثل تلك، عندما يبدأ لا أحد يستطيع إيقافه، ليس مثل عروب، منذ رحيل أبنه علي، لم ينبس ببنت شفة، لا شيء، فم مطبق إلى يوم الحساب، أمام الله القدير الذي سيجعلنا نتقيأ كل ما نعرفه وما لا نعرفه، وإذا أردتم رأيي، هو لن يكلم الله، لأنه لا يحبه.لأنه ليس ابنه علي، هو لن يكلم غيره، لأنه ليس لديه ما يقوله للعالم. عالم عروب هو أبنه علي، الصوت الوحيد المتبقي لديه. وهو ما يود الحفاظ عليه جيدا.

قبل أن يغرق عروب أسطورة الحي، في هذا الصمت المطبق، استضاف بعض أصدقاءه القلائل 
من زمرة من تبقى لديه، كل عائلته، ووالدي زوجته، وبعض الأغنياء من ذوي الأملاك، وبعض الرجال من واسعي النفوذ، لكي يلقي عليهم خطابا مما لم نعهده من قبل: " سوف لن أطيل عليكم، ولن أبقيكم لأجل العشاء " هكذا قال لهم بدون مقدمات " إذن لندخل مباشرة في الموضوع، توقفوا عن الصلاة وعن النواح، هذا مضيعة للوقت. توقفوا عن رفع أيديكم نحو السماء. اطردوا الخوف وأهتموا بنسائكم " كانت هذه هي كلماته الأخيرة التي سمعها الناس، بعدها لا صوت. 

دخل عروب في الدائرة الأخيرة من جهنم. ذلك الصمت الذي يسبق العاصفة. عروب البدوي المسكين الغير متعلم، وجد نفسه في حضن فيلق مهجور في الرمال البعيدة، مع رجال لا يعرفون ما يحدث لهم، غير كونهم يرتدون البدلة العسكرية ويضعون السلاح على الأكتاف، وقد تلقوا الامر المزمع تنفيذه بأن يفجروا مؤخرات العدو، غير أن هذا العدو لم يأت أبدا، وهم بدل أن يعيشوا صحراء التتار، تعرفوا على كل أنواع العفاريت مع رتبة الشرف على الأقل. 

عشر سنوات في ذمة الريح، في ذمة الرمال والجهل، عشر سنوات من الحياة خلف الوهم، خلف سراب يأخذ معه الزوجة والأطفال والأحلام الكبيرة. لا شيء، عروب أهدى فحولته إلى أرض تلفظه، معاق وصامت على ما ابتلي به وعلى بلاويه البائرة، عشر سنوات دون أن يطأ زوجته عائشة، التي لم تفتح فخذيها لرجل غيره، حين كان هو تحت الخيام يغرز عضوه في عاهرات منقبات، مع الرمل الذي يجلد حشفته. الغبي الأحمق المسكين عروب، ثم يقول بأنه البطل الذي كان يحمي خلفياتنا الصغيرة من غضب الجيران. بينما علي، كان لديه كل ما يحسد عليه، وسيما وذكيا ورومانسيا، بجسد منحوت كالتمثال، كان شابا اجتماعيا، لامعا ومشاكسا، فاتنا ورقيقا يخفي جانبا من الفتى المناور.

 ينجح دائما في الحصول على كل ما يريد دون أدنى مجهود. حيثما ولى تفتح في وجهه الأبواب. يكفي أن يعقد العزم على شيء لكي يسطر العالم من حوله حسب مستوى تصوره. الأكثر عنادا وتصلبا ينتهي بهم الأمر بتقبله والانفتاح على رؤاه. حتى أولئك الذين يكرهونه لا يستطيعون الابتعاد عنه. يظلون يبحثون عنه منجذبين لعالمه. لكنه كان متحفظا جدا، ومع هذا لم يكن يتجنب أحدا، كان فقط بحاجة إلى رؤية الأشخاص والأشياء عن بعد. يظهر حين تدعو الضرورة، أو ينسحب كالزواحف من بين فجوات الحياة. ثم يختفي. مرور بسيط خلال تجمع معين يكفي لتطويق الوضع. مجرد إلقاء نظرة، وينتهي الأمر. يستطيع مقابلة أي كان وبعد دقيقتين، يقدم لك صورة مكتملة لا تحتمل الخطأ.

 الأمر الذي تأكدنا من صحته بمناسبات عديدة. بحيث لمرات عديدة جنبني الوقوع في شرك بعض أبنا ء الكلاب القذرين الذين يظهرون على غير حقيقتهم منتحلين هيئة الأتقياء. كانت لديه حاسة سادسة أو فطنة لاكتشاف هذا النوع من المكائد، لم يكن بحاجة لإشهار نفسه أو إبداء ملكاته للناس، كان دائما يعتقد بأن الحميمية الزائدة مع الآخرين تُضعِف، حيث كان يتعمد إخفاء الحقيقة عن هؤلاء وأولئك ويدفعنا على الاعتقاد بالأشياء المغلوطة ويبرع في خلط الأوراق. لكن المثير للاهتمام لديه كان تلك السمة المتوحشة، تأهبه الدائم مثل حيوان مفترس وتأنيه في الانقضاض كي لا يفوت فرصته. 


عندما كنا ما نزال يافعين، كان علي يفحمنا بالنظريات حول أشياء تبدو تافهة، والتي لم نكن لنفهمها ولو بالخطأ. مرة كان علينا أن نواجه فرقة من الحي المجاور في مقابلة لكرة القدم، وما كان أكثر بلادة بالنسبة له، هو أنه يرى الأشياء مسألة حياة أو موت:" لا، المقابلة لن تجرى غدا، اذهب وأخبر فلان بأننا سنلعب بعد ثلاثة أيام " كان هذا أمر. مع اننا كنا مستعدين للعب في أي لحظة في اليوم، لكن القائد قرر بأننا بحاجة إلى ثلاثة أيام قبل معانقة الحدث. لماذا؟ كان علينا أن ننتظر للمساء لنعرف. يا لصديقي المهووس، والأيام الثلاثة القادمة ستنفعنا في دراسة العدو، " تفاهات " قلت له، متشوقا لإعطائهم درسا لا ينسى،" لا " يقول " يجب أن نكون مستعدين بدقة في إسداء الضربة التي يستحقونها ". بعد ثلاثة أيام أجرينا المقابلة، والأعداء كانوا مهزوزين لدرجة أن كان من السهل صرعهم. 

كل حياتنا باتت تنسج على غرار هذه المقابلة، كمعركة ضد الأشباح، تعلمنا معه وإلى جانبه بأن الأيام ليست على هيأتها الوديعة. أثناء الليل، يبدل الرجال سحناتهم، وهم يحذفون بالأيادي الطرشاء في حنايا زوجاتهم، ويصرخون من اللذة. بأن آباءنا لم يكونوا قديسين ولا كانوا أبطالا، ولكن كانوا مساكين، فاشلين، وعوض ان يلعنوا العالم وكل شيء، كانوا هنا بأذرع متضرعة، ينتظرون أن ينزل الله هباته على رؤوسهم. 

لا يتعبون من كثرة المضاجعة، لكي يجعلوا نساءهم ينسين مئات السنين من الحرمان ومن الدموع والضرب على البطون، الرجال كانوا قد ضيعوا الكثير من رونقهم، تشدقهم لم يعد يؤخذ بعين الاعتبار، أصبحوا جميعا كما كانوا، برؤوسهم الحليقة، وبطونهم المنتفخة، مجرد موظفين صغار يعيشون تحت رحمة فاسدين، تافهين أكثر منهم غير أن هؤلاء جمعوا ثروات طائلة بينما آباؤنا، قدوانا، الخائبون، لا زالوا مزروعين هنا، معجبون بمنظر البؤس الكارثي الذي يبتلع أحشاءنا.

يتبع...