الشطر الرابع من الفصل : الشيطان موجود في التفاصيل للرواية أراضي الله

لايف ستايل - 05-03-2024

الشطر الرابع من الفصل : الشيطان موجود في التفاصيل للرواية أراضي الله

اقتصادكم

 


علي كان عليه أن يدور حول نفسه مرارا وتكرارا قبل أن يقتنع ويتقبل حياته. جرب كل شيء لأجل كل شيء، كان على حافة ما لا مفر منه، والرجوع إلى نقطة البداية كان حتميا. 

كان علي يتطهر من آلامه دون الإلحاح كثيرا على الجوانب السلبية للحياة. كان ينساب مع تدفق الأيام وعندما يبتلعه النهر في طميه الموحل، يغطس تحت الماء المضطرم وينتظر السكينة بكل هدوء، كمحكوم بالإعدام اقتيد إلى حبل المشنقة، ما من أحد في الحي كان يظن بأنه سينجو مع أب مجرم وأعرج، أب كان ضحية حرب خيالية في مكان ما بالصحراء. علي كان يتجنب التحدث عن ماضيه، قلما نراه على غير ما يرام، أو نحسه كذلك، يخض رأسه بهدوء، كمن يحاول التخلص من طفيليات علقت برأسه.

مازلت أذكر والد صديقي علي. رجل متوسط القامة، قوي البنية، قمحي البشرة، يخطو بخطوات رتيبة، ورأس حليق دائما. كان اسمه العربي، ينادونه في الحي عروب، كان علي يقول بأن ذلك لا يزعجه، وبأن والده لا اسم له، ومن الممكن أن يسمى بكل الأسماء. أخذ مني ذلك سنوات قبل أن أفهم قصده. لكن في اليوم الذي توقفت سيارة عسكرية لاندروفر في الحي، وأقلت والده ملفوفا بالضمادات، خرج الجميع لرؤية المحارب البطل يعود إلى منزله، يحمل حقيبة نصف مملوءة بالمئونة، علب سردين
  
 
قصده. لكن في اليوم الذي توقفت سيارة عسكرية لاندروفر في الحي، وأقلت والده ملفوفا بالضمادات، خرج الجميع لرؤية المحارب البطل يعود إلى منزله، يحمل حقيبة نصف مملوءة بالمئونة، علب سردين  معلب، كراتين سجائر من نوع كازا سبور، وساق مبتورة، تركها بمكان ما بالصحراء، بعد أن أصبح مقعدا، سارعوا بركله خارجا، الرجل الذي لم يكن يتوانى في الدفاع عن إخوته ضد معسكر الاشباح، يقول بأنه لم يسبق أن رآه لمدة عشر سنوات من التفاني في الخدمة، بعيدا عن زوجته التي تنتظر  عودته المجيدة، عودة زوج متعطش لتعويض الوقت الضائع في الرمال، إلى جانبها على سرير من الحديد المصقول، أهداها إياه والدها المهرب ليلة زفافها. 

عائشة والدة علي، لم تعرف أبدا ذلك اليوم إلا في أحلامها. كانت امرأة جميلة جدا، مكتنزة ورقيقة، ومشهورة بطبخها المميز، تشبع بطن عروب منتظرة أن يشبع جسدها الجامح بالحب، لكنها لم تحظ بالمقابل بغير العكازة التي تحل محل ساقه، منتظرة أن يشبع جسدها الجامح بالحب، لكنها لم تحظ بالمقابل بغير العكازة التي تحل محل ساقه،  وقناني النبيذ الأحمر الفارغة والبصق على الأرضية طول النهار، يقول عروب بأنه يحس بطعم سيء في فمه، شيء تركته تلك الحرب الملعونة لصيقا به، منذ ان رأى ساقه تطير في الانفجار، لتستقر فوق جمجمة زميله المهشمة، منذ ذلك اليوم لم يعد عقله تماما له.

كانت عائشة امرأة هادئة وطيبة، تقول أمي، كانت تستحق رجلا طيبا ليهتم بها ويرعاها، يمنحها الحنان والأمل. لكنها لم تحصل على ما تستحق، يقال بأنها من عائلة طيبة، أناس أغنياء جدا، لكنهم تخلوا عنها حين أحبت يهوديا وهربت معه. تقول أمي التي كانت صديقتها المقربة، لم تخبرني بأكثر من ذلك، لكن ذلك اليهودي مازال حيا، على ما يبدو، متصاب ومجنون، ينتظر بثبات اليوم الذي يضع فيه عروب سلاحه لكي يعود لاسترجاع حبيبته عائشة، ويأخذها إلى أرضه الموعودة. في انتظار ذلك، تشتغل الجميلة كخادمة، عروب الذي يعرف تفاصيل هذه القصة، يضع يده على الزناد.

  صباحا وقبل الذهاب إلى المدرسة أو بعد ذلك إلى الثانوية، كنت أمر على صديقي علي، كانت أمه تدس في جيبه بعض القطع النقدية كي لا يحس بالنقص أمام أصحابه، ما لم تكن تعلمه الخالة عائشة (أو لربما كانت تعلم، لكنها تتظاهر بعدم الفهم، كتومة وصادقة كما عهدناها) أقول ما لم تكن تعلمه، أن ابنها لم يكن بحاجة لتلك القطع الرمادية والصفراء البائسة التي تدسها في جيب سرواله الجينز المهلهل. كان علي قد وجد طريقة مربحة ليدفع ثمن الكراء، مصاريف النبيذ والسجائر الماركيز والمصروف الصغير الذي يمده عروب لزوجته كل صباح لأجل الطعام، تدخر منه طبعا بعض القطع التي تنتهي في جيب الجينز كل صباح. حتى النقود يجب أن تخضع لقانون الدائرة، كل شيء يبدأ حيث ينتهي وينتهي حيث يبدأ.

كان علي يبيع كل شيء، الحشيش، السجائر المهربة، الملابس المسروقة، ولاعات أنيقة، أقلام كان قد سرقها من الأساتذة أو ممن يأتون إلى الثانوية بهدف توجيه التلاميذ. كان يبيع ملابس سباحة اسبانية الصنع للفتيات، أحذية رياضية، دفاتر، جلود الخرفان، مأكولات لا أعلم من أين يأتي بها، كل شيء يمر عبر يدي علي الصغيرتين. كان يستطيع تحصيل مئات الدراهم كل يوم، يتغيب عن الدروس، ثم يحكي حكايات ملفقة للإدارة، والأساتذة لا يستطيعون غير تصديقه، من جهة لأنهم كانوا سذجا بشكل واضح، ومن جهة ثانية لأن هذا الأحمق علي كان شخصا لا يقاوم. كان إذا قرر أن يحكي لك انه رأى الله بالذات والصفات، الأمس في الحي يبتاع لفافة حشيش مع والده وأحمد الخباز، وإذا اضطر لأن يجعلك تبتلع ذلك، فإنه سيحشو الكلام بكل طاقته ليشرح لك لساعات، إذا أمكن، ركائز وحيثيات الحكاية، المنطق الداخلي للأشياء، الجدلية الميتافيزيقية للخلق، المسالك والمنطق الفلسفي للعالم العلوي، معللا خطابه بأسماء يصعب نطقها، وتصورات فلسفية اختلقها في التو واللحظة. وتيسر أموره بإذن الله.

  بهذه الطريقة أيضا كان قد أوهم كل من في الحي، بأنه سافر بين النجوم لعشرة أيام، زار خلالها مختلف العوالم الموازية، عارجا بخفة عبر بوابات الجحيم، لكي يجلب لنا ذكرى حية عما ينتظرنا هناك. هذا الفصل الميتافيزيقي تم اختلاقه بكل جزء فيه لتبرير غيابه عن الأقسام الدراسية طيلة عشرة أيام.  والحقيقة، أنه كان في مهمة في الريف، من أجل التفاوض في صفقة دسمة، ما يقرب منعشر كيلوغرامات من الحشيش، يفترض به تسليمها لجماعة من الإنجليز، تمت استضافتهم برعايته عند صديق لنا، كان أحد الأغبياء من أبناء الذوات، والذي نسيت اسمه، لكن أخته كانت الصديقة الأقرب إلينا والأهل للثقة.