مهدي حبشي
استيقظت سهام (اسم مستعار) صباح اليوم على وقع منبهها المزعج، الذي يسرقها قسراً من أحلامها الطفولية... ألقت نظرة على يومية الهاتف فرُسمت على وجهها بسمة ماكرة، لقد حل اليوم المنتظر منذ عام.
لرؤية حبورها بحلول "عيد الحب"، قد يتوهم المرء أنها على موعد مع معشوق طال شوقها إليه.. لعلها حلمت أمس بهدية سخية، أو نامت على أمل علبة شوكولاتة فاخرة، يجلبها "فارس الأحلام" ممتطياً جواده الأبيض... لكن لا شيء من هذا أو ذاك يبهج قلبها.
هنا شاطئ "عين الذياب"، واجهة الحداثة البيضاوية، ووجهة سهام كلما أشرقت الشمس. في هذا اليوم، كما في سائر أيام السنة، يملأ العشاق هذا الفضاء ضجيجا بصوت قلوبهم التي تنبض على إيقاعات الحب.
يسير معظم المارة مثنى مثنى؛ جنسان مختلفان، أيادٍ مشتبكة، أحضان دافئة، وعيون تفصح عما يجيش في القلوب. لعل أول ما يتبادر إلى الذهن لدى رؤية هذا الزخم العاطفي: "أينتمي هؤلاء للمجتمع الذي خدشت حياءه كلمات رومانسية على غلاف بسكويت"؟
أما سهام فلا يبث الحب الدفء في قلبها فحسب، بل حتى جيوبها التي تنفق على أسرة فقيرة، رغم حداثة سنها الذي لا يبدو فوق الثانية عشرة ربيعاً.
وتبدأ رحلة سهام لقنص جيوب العشاق... تطلق الصبية العنان لعيونها مترصدة بوادر الحب. ليس الأمر بعسير، كل شاب وشابة يسيران جنباً إلى جنب هم زبائنها المفترضون.
جنسيات المتحابين وألوانهم وأديانهم... لا تهمها، فهي على نهج محيي الدين ابن عربي، تدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب وحده يضمن لها قوت يومها.
تتقمص سهام الحب الذي تبيعه وتشتريه، فلا تنتظر إقبال الناس عليها بل تباغتهم من حيث لا يحتسبون، وفي اللحظة التي لا يرتقبون، وتعرض عليهم بضاعتها بإلحاح يصل حد الإكراه...
يكفي سهام حس الأنثى فيها، ولا حاجة لها بمطالعة أفكار "فرويد" أو "دوركايم"؛ لتفهم سيكولوجيا المجتمعات الشرقية وتستثمرها في جني الدراهم. فهي تدرك أن الكرم من مواصفات الرجل التي لا تحيد عنها أنثى مغربية. تستغل سهام المعطى وتوجه خطابها للشاب دون خليلته بكل ما أوتيت من مكر ودهاء: "اشترِ وردة لهذه الوردة التي تصاحبك، أم أنها لا تستحق؟".
يُلقي المخاطَب نصف نظرة على رفيقته؛ فيدرك أنها وقعت في غواية الورد، وأن امتناعه عن الشراء قد يكلفه غاليا... فلا يجد بُداً من دفع مهر الورد 5 دراهم لسهام، وإن كان المبلغ آخر ما يحتويه جيبه، وإن كان يوفره لركوب الحافلة إياباً إلى بيته بعد نهاية الموعد، فهنيئاً له بالعودة سيراً على الأقدام.
سألت "اقتصادكم" سهام عن أرباحها من هذه "التجارة". خجلاً لم تشأ أن تبوح، فتعقبنا عبق الورود إلى مصدرها في سوق "درب عمر"، واستفسرنا تجار الجملة الذين كشفوا لنا، بعملية حسابية بسيطة، أن كل وردة تبيعها سهام لا يتجاوز ربحها 3 دراهم على الأكثر.
قد يبدو ربحاً لا بأس به بالنسبة لصبية ألقت بها الأقدار في متاهات "القطاع غير المهيكل"، لكن السؤال الحقيقي هو ذاك الذي تقتسمه سهام مع المطرب محمد عبد الوهاب: "يا ورد من يشتريك؟". فـ"الفالانتاين" لا يأتي إلا مرة في السنة، ونهاية الأسبوع 4 مرات كل شهر... عدا هذه المواعيد، تشتكي الصبية من كساد يضرب سلعتها؛ "تأتي عليَّ أيام بالكاد أبيع فيها وردة أو وردتين".
"فلِمَ الورد إذن؟" سألتها اقتصادكم. ألم يكن أنفع لها أن تتاجر في البسكويت أو الحلويات أو السكاكر؟ كما يفعل أقرانها عبر هذا الكورنيش المديد.. إذ يبدو للملاحظ أن توسع "مجتمع الاستهلاك" يُحفز تجارات دون أخرى...
رفعت كتفيها صوب الأعلى بابتسامة تتحدى تعابير الأسى على وجهها، دون أن تنبس بجواب... لعل الطبيعة التي تكره الفراغ اختارتها لتؤدي هذه الوظيفة الحيوية، لتغذي الأرواح بالحب الذي هي في أمس الحاجة إليه، بقدر حاجة الأجساد للغذاء.