اقتصادكم - سعد مفكير
بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، التي شكلت محطة مفصلية في مسار استكمال الوحدة الترابية للمملكة، تبرز اليوم دينامية دبلوماسية مغربية جديدة يقودها الملك محمد السادس، عنوانها البراغماتية، تنويع الشركاء، وبناء علاقات رابح-رابح، وهي مقاربة أعادت تموقع المغرب إقليميا ودوليا في قضية الصحراء المغربية.
وفي هذا السياق، اعتبر الصحافي والباحث في القضايا الدولية ابراهيم لفضيلي، في تصريح لموقع «اقتصادكم»، أن القرار الأممي الصادر مساء 31 أكتوبر 2025 يأتي تتويجا لنهج دبلوماسي راسخ انتهجه المغرب خلال العقد الأخير، حيث تمكن من فرض رؤيته القائمة على الواقعية والنجاعة، وإقناع عدد متزايد من الدول بعدالة قضيته ووحدة ترابه الوطني.
ويرى المتحدث ذاته أن التحول الجوهري في السياسة الخارجية المغربية بدأ مع إدراك الدولة أن مرحلة التحالفات الإيديولوجية قد انتهت، لتحل محلها مقاربة براغماتية تقوم على المصالح المشتركة.
وفي هذا الإطار، وسع المغرب شبكة اتفاقياته الثنائية، وكان أبرزها خارطة الطريق الموقعة مع الصين وروسيا سنة 2016، في وقت كانت فيه المملكة تواجه ضغوطا أوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري في شقهما المتعلق بالأقاليم الجنوبية.
وجاء تعيين ناصر بوريطة وزيراً للشؤون الخارجية سنة 2017 ليشكل منعطفاً حقيقياً، إذ تحوّل إلى أحد أكثر الفاعلين دينامية داخل الجهاز التنفيذي، مكرسا الرؤية الملكية الجديدة التي تقوم على التحرك الاستباقي وتعزيز حضور المغرب داخل المنتظمات الإقليمية والدولية.
تجاوز “البلوكاج” الجزائري واستباق مبادرات الأمم المتحدة
قبل هذا التحول، كانت الدبلوماسية المغربية قد نجحت في كسر حالة الجمود التي فرضها النظام الجزائري داخل المسار الأممي، خاصة خلال فترة المبعوثين الأمميين الذين أبدوا ميلا واضحا للطرف الآخر، مثل جيمس بيكر الذي قدم مقترحات منحازة للموقف الانفصالي، وصلت إلى حد اقتراح إنشاء كيان جديد على جزء من الأقاليم الجنوبية.
غير أن المغرب تصدى بقوة لهذه الطروحات، ما شكل، حسب الباحث، نقطة وعي جديدة دفعت الدبلوماسية المغربية إلى تبني نهج استباقي، يقوم على تحييد كل المبادرات التي يمكن تحويرها من خصوم الوحدة الترابية.
وفي هذا السياق، أعلن المبعوث الأممي بيتر فان والسوم سنة 2006 عن استحالة خيار الاستفتاء، بعد اقتناع مجموعة من الفاعلين الدوليين بتعقيدات تحديد الهوية ومن له الحق في التصويت، إلى جانب العرقلة الممنهجة والتلاعب في سجلات الهوية داخل مخيمات تندوف، وهي نقطة سبق أن أكدها القيادي الصحراوي الشيخ بيد الله الذي كان عضواً في لجنة تحديد الهوية.
العودة إلى الاتحاد الإفريقي وبداية الانعطافة الاستراتيجية
يؤكد لفضيلي أن العودة التاريخية للمغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017 مثلت انعطافة استراتيجية في مسار الدبلوماسية المغربية. فبعد سنوات من الغياب، عاد المغرب بهدف سحب الملف من أروقة الاتحاد وإعادة تركيزه في مساره السياسي الأممي.
ومع مرور الوقت، أثمرت الجهود الدبلوماسية المغربية تحولا نوعيا في المواقف الإفريقية، حيث أصبح عدد متزايد من الدول يسحب اعترافه بالكيان الوهمي ويؤكد دعم مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
اعتراف أمريكي ومرحلة جديدة في مجلس الأمن
وجاءت لحظة 10 دجنبر 2020 لتشكل تتويجاً لهذه الجهود، حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب الكاملة على أقاليمه الجنوبية، وهو قرار وصفه الباحث بأنه “متقدم وشجاع”، إذ غيّر جذرياً من صياغة قرارات مجلس الأمن، وجعلها أكثر اتساقاً مع مقترح الحكم الذاتي الذي تعتبره الأمم المتحدة حلاً واقعياً وذا مصداقية.
وقد وفّر هذا التحول قاعدة تفاوضية قوية للرباط في علاقاتها مع القوى الكبرى، وعلى رأسها فرنسا وإسبانيا، اللتان أعادتا بدورهما صياغة موقفيهما في اتجاه دعم المقاربة المغربية.
دبلوماسية الملك محمد السادس.. رؤية متجددة لقضية عادلة
في قراءة الباحث، فإن القرار الأممي الأخير ليس حدثاً معزولاً، بل نتيجة مسار استراتيجي متكامل يقوده الملك محمد السادس منذ عقدين، يقوم على الفاعلية، والتوازن، والانفتاح على الشركاء الجدد في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع الحلفاء التقليديين في أوروبا.
لقد نجح المغرب، من خلال هذه الرؤية، في تحويل ملف الصحراء من نزاع مفتعل إلى قضية تنمية واستثمار واستقرار إقليمي، ليؤكد أن المسيرة الخضراء التي انطلقت سنة 1975 لا تزال مستمرة اليوم، ولكن بأدوات دبلوماسية واقتصادية حديثة.
وبعد خمسين سنة على المسيرة الخضراء، تبدو الدبلوماسية المغربية في أوج نضجها وفاعليتها، حيث استطاعت الجمع بين الشرعية التاريخية والسيادة الميدانية والحضور الدولي الفاعل، لتُعيد صياغة النقاش حول الصحراء المغربية على أسس جديدة تعكس رؤية ملكية استشرافية ومقاربة وطنية موحدة تربط بين الدفاع عن الوحدة الترابية والتنمية الشاملة للمملكة.