اقتصادكم- أسامة داودي
يشهد المغرب حركة هجرة داخلية واسعة، إذ غادر نحو أربعة ملايين شخص القرى نحو المدن خلال السنوات الأخيرة، وفق تقرير حديث للمندوبية السامية للتخطيط، التي أكدت أن هذه الظاهرة تعكس عمق الفوارق التنموية بين الجهات، وتعيد رسم الخريطة السكانية والاقتصادية للمملكة.
وفي ظل تركز فرص العمل والخدمات والبنيات التحتية على الساحل الأطلسي، تتواصل موجة النزوح من المناطق القروية نحو المراكز الحضرية الكبرى، مما يفاقم التفاوتات المجالية والديموغرافية، ويدفع المندوبية السامية للتخطيط إلى الدعوة لاعتماد سياسات تنموية أكثر عدالة وتوازنًا بين الجهات.
وفي هذا السياق، اعتبر الخبير الاقتصادي محمد جدري أن التفاوتات المجالية بين جهات المملكة أصبحت من أبرز التحديات التي تواجه النمو الاقتصادي والاجتماعي في المغرب، مشيرًا إلى أن الملك محمد السادس سبق أن أكد ضرورة تجاوز المغرب لمرحلة “السرعتين”.
وتابع جدري أن جهة المحيط الأطلسي، من طنجة إلى الجديدة، تسير بسرعة تنموية عالية، في حين تعرف جهات أخرى مثل درعة تافيلالت والجهة الشرقية وجهة كلميم واد نون، بطئًا كبيرًا في وتيرة التنمية.
وأكد جدري، في تصريح لموقع "اقتصادكم"، أن هذا الاختلال أدى إلى تدفق سكاني كبير نحو المدن الكبرى والمتوسطة، ما تسبب في عدة مشاكل اقتصادية واجتماعية، أبرزها الضغط على النقل والسكن وارتفاع أسعار العقارات والكراء، إضافة إلى ارتفاع الطلب على السلع والخدمات وتزايد المنافسة في سوق الشغل، ما يدفع العديد من المواطنين إلى العمل بأجور منخفضة.
وشدد الخبير الاقتصادي على أن نزيف الهجرة الداخلية نحو المدن الكبرى يهدد الأمن الغذائي للمغرب، نظرًا لتراجع اليد العاملة في المناطق القروية، مما قد يؤدي إلى نقص في اليد العاملة الفلاحية مستقبلاً، خصوصًا في تربية المواشي والزراعة.
وأضاف جدري أن الفوارق بين الجهات المغربية تتجلى بوضوح في البنية التحتية، "بحيث لا يمكن مقارنة جهة الدار البيضاء-سطات التي تتوفر على قطار فائق السرعة، ومطار دولي، وميناء ضخم، وطرق سيارة ومناطق صناعية ومستشفيات وجامعات، بجهة درعة تافيلالت التي تفتقر لهذه المرافق الحيوية، إذ لا تتوفر سوى على مطار صغير لا يلبي حاجيات الساكنة، ولا تمتلك مناطق صناعية أو منافذ بحرية، مما يعمّق الفوارق التنموية بين الجهات".
وأشار الخبير إلى أن النموذج التنموي الجديد حدد هدفًا يتمثل في تقليص مؤشر “جيني” لقياس الفوارق الاجتماعية من 45% إلى 30% بحلول سنة 2035، وهو ما يتطلب، حسب قوله، العمل العاجل على تحسين البنية التحتية في المناطق المهمشة، وتسهيل ولوج المواطنين إلى الخدمات الأساسية في مجالات التعليم، والصحة، والماء، والكهرباء، والاتصالات، والطرقات.
وأبرز جدري أن تحسين جودة التعليم والصحة في المغرب العميق ضرورة ملحة، فلا يعقل، حسب قوله، "أن يضطر مواطن من منطقة نائية للسفر إلى عاصمة الجهة من أجل الاستفادة من خدمة صحية متقدمة، داعيًا إلى تأهيل المستشفيات الإقليمية، وتزويدها بالأطباء العامين والمتخصصين وبالمعدات الضرورية لتقريب العلاج من المواطنين".
وبخصوص التنمية الاقتصادية، أوضح الخبير أن تشجيع الأنشطة التجارية والاجتماعية في المناطق الهشة يجب أن يكون أولوية، عبر المواكبة والتمويل ومصاحبة حاملي المشاريع الصغيرة والمتوسطة، مشيرًا إلى أن هذا التوجه ورد في الخطاب الملكي لعيد العرش وخطاب افتتاح البرلمان، وكذلك في مشروع قانون المالية، من خلال إطلاق جيل جديد من البرامج الترابية المندمجة التي تتيح للمواطنين فرص التمويل والدعم والولوج إلى الطلبيات العمومية.
ولفت المتحدث ذاته إلى أن الأقاليم الجنوبية للمملكة تمثل نموذجًا ناجحًا في التنمية المتوازنة، إذ تحولت إلى منصة اقتصادية واعدة للمغرب نحو إفريقيا بفضل البرنامج التنموي الخاص بها الذي رُصدت له ميزانية تفوق 96 مليار درهم، وتم خلاله إنجاز مشاريع كبرى مثل الطريق السريع تزنيت–الداخلة، والميناء الأطلسي بالداخلة، والمركز الاستشفائي بالعيون.
وزاد موضحًا أن هذه المشاريع ساهمت في خلق دينامية اقتصادية قوية في الصحراء المغربية، مشددًا على ضرورة الاستثمار في الرأسمال البشري المحلي وتأهيله، سواء من أبناء هذه الجهات أو من كفاءات باقي مناطق المملكة، من أجل تلبية حاجيات المستثمرين المغاربة والأجانب على حد سواء.
واختتم الخبير الاقتصادي تصريحاته بالتأكيد بأن تحقيق العدالة المجالية وتقليص الفوارق التنموية يتطلب إرادة سياسية قوية وتنسيقًا فعالًا بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لأن مستقبل التنمية بالمغرب، كما قال، "لن يتحقق إلا إذا نُقلت فرص النمو من المدن الكبرى إلى عمق التراب الوطني".