اقتصادكم
لم يعد من الممكن الحديث في عالمنا اليوم عن تنمية اقتصادية دون أن تكون مستدامة، ولا عن مشاريع استثمارية دون النظر في أثرها البيئي، وفي هذا السياق، يبرز التمويل الأخضر كأداة استراتيجية تجمع بين المال والبيئة، وتُعيد توجيه الموارد المالية نحو مشاريع تنموية صديقة للمناخ.
ويسعى المغرب، الذي يُعتبر من بين الدول الإفريقية الرائدة في مجال الطاقة المتجددة، بقوة إلى ترسيخ هذا النوع من التمويل في بنيته الاقتصادية، مدفوعًا بالتزاماته المناخية ورغبته في جذب استثمارات نوعية طويلة الأمد.
وأعلن المغرب، في وقت سابق، عن التزامه بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، وسطر هدفًا بتحقيق 52% من إنتاج الكهرباء من مصادر متجددة في أفق 2030. هذه الأهداف، وإن كانت طموحة، تتطلب تمويلات ضخمة تُقدَّر بمليارات الدولارات سنويًا، وهنا يأتي دور التمويل الأخضر كرافعة أساسية لتنزيل الاستراتيجيات المناخية على أرض الواقع.
وشهدت السنوات الأخيرة تطورات لافتة في السوق المالية الوطنية، حيث برزت عدة مؤسسات وطنية بإصدارات سندات خضراء أو بشراكات دولية لتمويل مشاريع صديقة للبيئة:
الوكالة المغربية للطاقة المستدامة (MASEN) أصدرت أول سند أخضر في تاريخ المغرب بقيمة 1.15 مليار درهم، خُصص لتمويل مشاريع الطاقة الشمسية (NOOR PV-1) في العيون وبوجدور وورزازات، بطاقة إجمالية تقارب 170 ميغاوات. الإصدار تم وفق معايير بيئية دقيقة وبتقييم خارجي يضمن الشفافية والامتثال.
البنك الشعبي كان أول مؤسسة مالية مغربية تُصدر سندًا أخضر بالعملة الصعبة، بدعم من مؤسسات دولية مثل IFC وProparco، بقيمة إجمالية 135 مليون يورو من أجل إعادة تمويل مشاريع بيئية ودعم انتقال البنك إلى نموذج مصرفي أخضر.
المكتب الوطني للسكك الحديدية (ONCF) أصدر سندًا أخضر بقيمة 2 مليار درهم في بداية 2025 لتمويل مشاريع السكك المستدامة، بما يشمل الكهربة والتقليل من البصمة الكربونية. الإصدار عرف إقبالًا قياسيًا، حيث فاق الاكتتاب خمس مرات المبلغ المطلوب.
بنك إفريقيا (BOA) أطلق برنامجًا جديدًا للقروض الخضراء بشراكة مع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) والاتحاد الأوروبي وصندوق المناخ الأخضر، بقيمة 70 مليون يورو، يستهدف المقاولات الصغيرة والمتوسطة للاستثمار في حلول مناخية وتكنولوجيات نظيفة.
ورغم هذه المبادرات، يبقى التمويل الأخضر في المغرب دون ما تقتضيه طموحات المرحلة، وحسب المعطيات التي استقاها موقع "اقتصادكم"، يواجه المغرب فجوة تمويلية مناخية تصل إلى 4.5 مليار دولار سنويًا حتى 2030. كما أن العديد من التحديات البنيوية ما زالت قائمة كنقص التشريعات الدقيقة التي تؤطر سوق السندات الخضراء، وضعف ثقافة الاستثمار البيئي داخل بعض المؤسسات المالية والمقاولات، وارتفاع تكاليف التمويل الأولي للمشاريع المستدامة مقارنة بالمشاريع التقليدية، والحاجة إلى آليات تقييم دقيقة وشفافة للأثر البيئي وتفادي ظاهرة الـ"greenwashing".
في المقابل، يمكن للمغرب الاستفادة من تجارب دولية رائدة. في الصين، يُعتبر سوق السندات الخضراء من الأكبر عالميًا، مع اعتماد تصنيفات موحدة تسهّل التدفقات الاستثمارية الدولية. أما في الولايات المتحدة، فتُستخدم أدوات تمويل مبتكرة كالسندات الخضراء للمياه لدعم مشاريع البنية التحتية البيئية محليًا. دول الاتحاد الأوروبي بدورها طوّرت بنوكًا تنموية متخصصة تصدر سندات خضراء موجهة لمشاريع محددة بدقة، معززة بضمانات حكومية ومعايير إفصاح صارمة.
ولتعزيز موقعه كفاعل إقليمي في مجال التمويل المستدام، يحتاج المغرب إلى تعزيز الأطر التنظيمية والتشريعية بما يتماشى مع المعايير الدولية، إحداث تحفيزات ضريبية وضمانات للمستثمرين في المشاريع الخضراء، تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتمويل مشاريع البنية التحتية البيئية، دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة عبر برامج قروض خضراء ومرافقة فنية، ضمان الشفافية والإفصاح المنتظم عن الأثر البيئي والاجتماعي للمشاريع، وتعزيز التكوين والتوعية حول الاقتصاد الأخضر بين المستثمرين وصناع القرار.