اقتصادكم - حنان الزيتوني
في خضم تحولات اقتصادية متسارعة، وتحديات اجتماعية متزايدة، تبرز إشكالية المالية العمومية كأحد أكبر الأوراش التي تواجهها المملكة اليوم. فبين ضرورة استكمال الإصلاحات المالية وضمان استدامة الموارد، تقف الحكومة أمام مسؤولية تأمين تمويل كاف وطويل الأمد لورش الحماية الاجتماعية، الذي يشكل حجر الزاوية في الحفاظ على السلم الاجتماعي وتعزيز العدالة الاجتماعية بالمملكة.
ففي الوقت الذي شرعت فيه الدولة في تنزيل المراحل المتقدمة من ورش الحماية الاجتماعية، ارتفع عدد المستفيدين بشكل غير مسبوق، خصوصا بعد تعميم نظام التأمين الإجباري عن المرض لفائدة غير القادرين على المساهمة "AMO تضامن"، الذي بلغ عددهم ما يناهز 11.4 مليون شخص.
كما استفادت أزيد من 4 ملايين أسرة من برامج الدعم المباشر، ما يمثل تقريبا 12 مليون مستفيد، بين أطفال ومسنين وأشخاص في وضعية هشاشة. هذا التوسع في قاعدة المستفيدين يفرض على الدولة توفير موارد مالية ضخمة لتأمين استمرارية هذا الورش الوطني، خصوصا في ظل ارتفاع التكاليف المرتبطة بالخدمات الصحية، وتوسيع شبكات المستشفيات، وتدبير برامج الدعم النقدي.
إصلاح جبائي
وفي هذا السياق، يرى بدر الزاهر، محلل اقتصادي، أن مسألة إصلاح المالية العمومية تقتضي إعادة النظر في عدة ركائز، أبرزها "القانون التنظيمي لقانون المالية"، وكذا منظومة الجبايات، معتبرا أن "الجبايات تحتل مركز الصدارة على مستوى الإصلاح المالي، لأن المغرب اليوم يشتغل داخل موازنة ذات طابع جبائي بامتياز".
وأضاف الزاهر في اتصال مع موقع "اقتصادكم"، أن الوصول إلى ما يصطلح عليه بـ"الإنصاف الضريبي"، يعني أولا "تحقيق العدالة على مستوى كل الفئات المعنية بتأدية الضرائب، والتي يجب أن تساهم وفقا لمداخيلها الحقيقية". لكنه يقر بأن "مسألة الإنصاف لا تزال بعيدة المنال"، حيث أن "هناك فئة تؤدي ضرائبها بانتظام، وفئة أخرى تقدم تصريحات غير مطابقة للواقع، بل وفئة ثالثة غير مشمولة أساسا لأنها مستحدثة أو خارج نطاق النظام الجبائي".
وأورد الزاهر أن هذا الواقع "كرس نوعا من الضغط غير المتوازن، سواء على شركات معينة أو على فئات من الموظفين والمستخدمين، ناهيك عن ارتفاع نسب الضرائب على الدخل وضريبة الشركات، مما يحد من نجاعة النظام الجبائي كأداة للعدالة والتوزيع".
اقتصاد غير مهيكل
أما بخصوص الاقتصاد غير المهيكل، وهو ما يشكل قرابة 70% من الاقتصاد المغربي، فيؤكد الزاهر أن "هذه الفئة الواسعة لا تؤدي ضرائبها، مما يفوت على خزينة الدولة موارد ضخمة، ويخلق اختلالا حقيقيا في مبدأ العدالة الجبائية".
وشدد المحلل الاقتصادي، على أن الإصلاح الجبائي لا يمكن أن ينجح دون "تقليص حقيقي لحجم القطاع غير المهيكل، ودمجه بشكل فعلي في الدورة الاقتصادية المنظمة".
ومن هنا، يعتبر الزاهر أن أي رفع لمداخيل الدولة الجبائية يجب أن يتم من خلال توسيع الوعاء الضريبي، وليس فقط عبر رفع النسب المفروضة على الفئات الملتزمة أصلا، لأن ذلك سيؤدي إلى المزيد من الضغط والانكماش في قدراتها الإنتاجية والاستهلاكية.
استدامة مالية
ويرى الزاهر أن الرهان الأكبر اليوم يكمن في ضمان الاستدامة المالية لهذا الورش الاجتماعي الضخم، الذي بدأ يتحول إلى ما وصفه بـ"صمام أمان" على مستوى الاستقرار الاجتماعي والدينامية الاقتصادية، مشيرا إلى أن "الاستدامة تظل أمرا صعبا في ظل الظروف الحالية"، خاصة مع لجوء المغرب مؤخرا إلى "الاقتراض من المؤسسات الدولية، كخيار من أجل تنويع مصادر تمويل الحماية الاجتماعية".
ويورد المحلل الاقتصادي أن هناك "أهمية قصوى للاستمرار في إصلاح صندوق المقاصة، الذي لا يزال يستنزف مبالغ ضخمة في دعم مواد مثل السكر والدقيق والغاز"، مبرزا أن إعادة توجيه هذا الدعم نحو الفئات المستحقة في إطار الحماية الاجتماعية سيمكن من تحقيق نوع من التوازن بين النفقات الاجتماعية والمداخيل الجبائية.
دعم مباشر
وفي تقدير الزاهر، فإن برامج الدعم المباشر التي أصبحت تشمل ملايين المغاربة، "تتطلب بنية مالية متماسكة، تقوم على شفافية الإنفاق، وعدالة الجباية، وتوسيع القاعدة الضريبية"، مضيفا أن "أي تعثر مالي مستقبلي قد يؤثر سلبا على هذا الورش، ويهدد استمراريته، خاصة في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة، وتقلبات الأسواق، ومحدودية الخيارات التمويلية الوطنية".
وتابع الزاهر قائلا: "ورش الحماية الاجتماعية ليس مجرد برنامج ظرفي، بل هو رهان استراتيجي، يتطلب تعبئة شاملة وإصلاحات جريئة، تبدأ من قلب المالية العمومية وتنتهي عند كرامة المواطن".