الشطر الثالث عشر من رواية "أراضي الله"

لايف ستايل - 27-02-2024

الشطر الثالث عشر من رواية  "أراضي الله"

اقتصادكم

 

في الليل، كثيرا ما تلفني عتمة الماضي. أتذكر صوت ذلك الطفل الذي كنته، هائما في شوارع مظلمة يكسوها الخوف المحموم، بملامح مشدودة كملامح رجل عجوز، وأحشاء منكمشة من الجوع، والغضب والخوف.

 الخوف من يوم مميت مع الكم الهائل من اللكمات على الوجه والشتائم حيث يكون لأمي فيها، النصيب الأوفر. كانت تقدم لي أفضل ما لديها مما لا يمكن نسيانه عندما تكون منشرحة: " لا أعلم لماذا أنجبتك " ما كانت تقوله هنا كان جملتها الواضحة. "وما أدراني أنا؟ لم أطلب من أحد أن ينجبني، أمي". " الله هو من قرر ذلك "، كانت تقول. ثم ماذا؟ لا أستطيع التدخل بما سيحدث، وكان علي أن أخرس كلما بدأت الأسئلة الميتافيزيقية لأمي رفقة صديقاتها تتناول بالتحليل الوجود البائس لجسدي الصغير، المرفوض مسبقا كخطيئة، شيء نجس لصيق بعائلتي رغم أنفها؟ تختم أمي ندمها باعترافها الكبير: " أتعرف، أنت لست ابني، لقد وجدتك في مكب للنفايات".

ماذا يقال بعد هذا؟ ماذا يقال حين بالكاد بلغت الخامسة من العمر، تطل عليك الحياة بوجه ساحرة قبيحة، خرجت للتو من جحيم دانتي؟ قبلت التصديق بأن أمي لم تكن أمي، بأن مكب النفايات كان أول سرير تقدمه لي الحياة، بأن امي الحقيقية كانت لتندم على أنها رمتني صبيحة أحد الأيام الماطرة، برأس عار والدم يلطخ الخاصرة. كان هذا سببا كافيا لأحب أهلي رغم أقوالهم وسخريتهم لأني كنت متأكدا من فوزي بحبهم بواسطة الطيبة والخنوع والصمت.

 إخوتي أيضا كان لديهم طريقتهم في إخباري بأني كنت بينهم عن طريق الصدفة. كانوا ينادونني حتى سنوات مراهقتي:" أخونا في الله "، طريقة تجعلني أحس بأنهم قبلوا بي فقط لأن الله حشر أنفه في قصصنا. لو كان الأمر يعود إليهم، لكان من دواعي سرورهم أن يكونوا ذرية من نوعي.
بالفعل في السادسة من عمري، لم يكن ليكلمني أحد عن الله إذ لم أكن أخافه. لم يكن يهمني أيضا، رغم الشتائم البليغة التي كنت أوجهها له كل يوم. مرة كنت خارجا من المدرسة، أذكر أني تقريبا كنت في سن الثامنة، عندما اعتدى علي أحدهم بالضرب المبرح وكان أكبر سنا مني، سلب مني محفظتي وثقب جلدي بواسطة كوز (نعم كوز، يا له من سلاح)، على مرأى ومسمع من كل الشارع دون أن يحركوا ساكنا. جثوت على ركبتي أكاد أجن من الغضب بوجه متشنج تغمره الدموع كملاك صغير معذب، رفعت وجهي باتجاه السماء الرمادية، ألوّح بيدي والدموع تنهمر، مخاطبا الله:"ماذا فعلت لك لكي تتخلى عني، كيف تركت هذا النذل ابن العاهرة يعتدي علي دون أن تتدخل؟ قل لي، لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ ..."  

لا شيء غير الصمت، لا جواب لهذا الوجه الملعون. غير بعيد من صراخي كرضيع، كان يسمع هدير الموج المتلاطم وطقطقة أشعة الشمس وهي تلامس ذرات الغبار. لا جواب، لا أحد لإنقاذي إلا شتائم بعض المارة الذين قالوا بأني أستحق الحرق حيا لكوني قللت من احترام الله."أيها البغاة " قلت لهم. "ما دام الله في كل مكان لماذا لم يدافع عني؟ لماذا كان يستمتع بمشاهدتي أدهس تحت الأقدام مثل ذبابة القذارة، أليس هو من يخبرنا بأنه عادل، وأنتم، أبناء الكلاب كنتم تتفرجون".هنا ساءت الأمور أكثر، قدم شاب كبير وعلقني من قفاي وانهال علي بالضرب بشكل لن أنساه أبدا.

عدت إلى المنزل بوجه متورم ومحمر بفعل الدموع والغضب، مذلول حتى النخاع، كنت أصرخ مسعورا وأتمرغ على الأرض وألعن العالم بكامله. عندما حكيت لأمي ما حدث، انهالت علي بالركل
والضرب الدامي بواسطة غصن رقيق وقاس ومسنن أيضا، مما يمكنه أن يترك علامات على لحمك 
لمدة شهر. تلك العصا التي خرجت من جهنم والتي يستخدمها الملائكة لمعاقبة الملاعين. كان أمرا لا ينسى لأن هذا الغصن المسمى عصا، ترك في علاماته لأكثر من عشر سنوات كان يقض مضجعي 
بأشكال مختلفة، تارة على شكل ثعبان يلدغني، وتارة على شكل حبل يخنقني وأخرى على شكل 
خنجر يفتك بأحشائي. 

في ليال أخرى يتحول إلى كلب أسود بأنياب متوحشة يسيل لعابها، والذي يسحبني إلى وحل أحمر قرمزي، ويهشم عظامي، وينتهي بأن يبول علي بولا ساخنا، يتصاعد دخانه ورائحته الكريهة. لمرات عديدة يأتي بكل هذه الأشكال دفعة واحدة، ثعبان وحبل وخنجر وكلب أسود. كلها أدوات من جهنم تساهم بالعملية، وسائل متضافرة للتعذيب الأبدي.

قبل بضع سنوات أيضا، كانت أمي تستريح في لحافها على الأريكة التي تستخدم كسرير أيضا، كانت تلك العصا بديلا عن الصولجان الذي يساعدها في إخافة قطي، لكن هذا القط مات في سنه الخامسة عشر ودفن معه صفحة من حياتي. هو أيضا وبالرغم من شكله الممتلئ ووزنه الثقيل أدرك أن لا هدنة مع عصا أمي الشديدة. تلك العصا التي أصبحت المرافق الرسمي للانجراف العاطفي لأمي، ولون الرعب الذي كثيرا ما حلق فوق عيوني الحزينة.