الشطر الثاني عشر من رواية " أراضي الله"

لايف ستايل - 26-02-2024

الشطر الثاني عشر من رواية " أراضي الله"

اقتصادكم

 


في هذه الأثناء بالحي وفي سن العاشرة، كنت بالفعل أكبر فتى. حتى المراهقين الذين يكبرونني بست سنوات كانوا يستشيرونني بشأن حكاياتهم أو مشاكساتهم في حي آخر أو مشكلة ما في الثانوية أوعن حب جديد. 

كنت أجد الكلمات المناسبة لمساندة كل هذا العالم الجميل المتروك للتخمينات. بعضهم يعربون لي عن إعجاب كبير. وآخرون يكرهونني رافضين أن فتى مثلي يستطيع أن يرشدهم إلى الطريق الذي أنا أعرفه، انه هو ما قادني مسافة متر، من عمري الحجري إلى الملاذ الآمن لمليكة. 

دروب الحرية دفعتني فجأة إلى صف رجل صغير أخبرته الحياة بالأهم. فهمت بأن السعادة الحقيقية هي في وعينا بأننا هنا، نجوب هذه القطعة من الأرض، بقلب نابض وعروق ترتج. الباقي، صخب العقل والكلمات الفارغة من المعنى. لأن المعنى الوحيد للحياة، هو الوجود، هو أن تحس الجسد يصلي لنعم الطبيعة، يغني ترنيمة الفرح التي تدرها الحياة في كل لحظة مع كل ذرة هواء تعبر دمنا.

مليكة حسمت قدري مع العالم. روحا وجسدا معا يغوصان في الحياة. روحا وجسدا معا يحبان. روحا وجسدا معا يكرمان الإنسان بداخلي. روحا وجسدا معا يغنيان للجسد أعياد زحل، احتفاء ببكشناليا نزيف الروح. في سن العاشرة، أخذت الحياة بين ذراعي. ضممتها إلى صدري الغض وأقسمت: " طالما طريقنا مكتوب، لا حرب، لا خيانة، لا خوف، سيكون الحب هو المبتغى الوحيد". 

أحسست الحياة تزهر في صدري، تنزلق من بين ضلوعي، تتدفق في حنايا جسدي، تغوص في أحشائي وتهمس في روعي مباشرة:" اطمئن، الحياة لا تخون أبدا". تعرقت كما بعد مباراة جميلة في كرة القدم. ذهبت لرؤية أخي لأخبره، بأنه من اليوم يمكنه الاعتماد على رجل، بأن الحياة منحتني ثقتها، وبأني رفيقها. فتح لي أخي ذراعيه، وضع يده على شعر رأسي الكثيف وقال: " المخلوقات مثلك هم أصدقاء الحياة، ستكون يا أخي الصغير مرحبا بك من طرف الجميع، لكن بين حين وآخر دع قلبك يقتات من نور الشمس الذي يعيد ترميمنا، سوف تلمع مثلها يوما ما، وسيكون لديك نصيب من الخلود. اذهب والعب، فاللعب هو أول بوادر النضج أول أعمال الآلهة." بعد خمس وعشرين سنة، قال لي أخي ذات مساء: " سبق وقلت لك بأنك صديق الحياة. مهما فعلت بك، لا تدر لها ظهرك، هي تحب الذين يحرصون عليها، الذين يواجهون ها وجها لوجه، رجلا لرجل."

كبرت بين مليكة وأخي، إلهان بشريان، بشريان حتى النخاع، ختما روحي ومزجا بدمهما دمي لكي يتأكد الرجل بداخلي يوما ما من تكامله، من تفرده، من تساقطه الحر والمحموم في الزمن. وأنا في العاشرة من العمر كان علي مصافحة القدر، وتوقيع عقد اللاعودة و اللاتراجع عن الدرب، فقط أتابع السير، أخلق الحياة أمام خطواتي، أتغذى من الكائنات، أمتص دمهم حتى آخر قطرة، غالبا ما أجعل من حياتهم جحيما مكشوفا للسماء، أجعل من الصواعق عقابا لخبث الأرواح الضائعة، مثل روحي، لكن ذرة شر واحدة لم تصب قلبي. فقط أهيم تائها في دروب الحياة، الهيام كلمة رفيعة مكتفية بذاتها، دلالة مقدسة على الإله، الهائم الأول والأكبر الذي أورثنا أسمى أجمل التحايا، نتتبع مليارات الثواني والسنوات الضوئية للأرض لنكتشف مكمن الاهتزاز في العمق الدقيق لنظرة، في تجويف يد ممدودة أو في لمعان أسنان بيضاء تبتسم.

بعد ثلاثين سنة، أتشارك أيامي المفخخة وليالي البركانية بين الرضا والغضب، مستوعبا أن الصور التي رافقتني في حياتي تركتني بمكان ما معلقا بين الأحلام والكوابيس، لا أعرف كيف أتراجع عن هذا الطريق ولا كيف أصل إلى نهايته. كان أخي على حق كما هو الحال دائما. أما أنا تركت الحياة تبعدني. يلاحقها اليوم سباق مثير لأجل الإمساك بتقلبات الأيام الخوالي، دون القدرة على استعادة اللحظات الضائعة التي لم تكن أبدا كذلك، فاللحظات لا تضيع، بئسا، ولا حتى الأيام والحياة، ولا الشخص الذي يحمل في داخله الأزمنة والأمكنة. لا شيء يمضي، كل ذلك تفاهات كاذبة. 

الحياة والناس والأشياء تتراكم وتكبر بداخلنا.  وكل يوم نحياه يدل مرة أخرى على أن الحياة لا تدير أبدا ظهرها، وأن المعنى الحقيقي لوجودنا هو أن نُستنبَت من جديد. لكن الطرق التي تؤدي إليها هي غالبا ملتوية وصعبة المنال. ما يهم في الوقت الحاضر هو أن نقول نعم، نعم للحياة بدون عقبات. نعم للعالم بقبحه وجماله. نعم للماضي الذي يتعقبنا رغم فرارنا البطولي ورغم رغبتنا في النسيان.نعم، لكل شيء بلا ممانعة. لأن العالم حاجز متين ومقصورا ته ليست سوى أوهام عن المعيش. لكن هناك النسيان.


 

 

يتبع..

عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب