الشطر الخامس عشر من رواية "أراضي الله"

لايف ستايل - 29-02-2024

الشطر الخامس عشر من رواية "أراضي الله"

اقتصادكم

 

 

 باب الحجرة الرمادي، حيث أشرف أخي وأمي وعمتي على غسل الميت، تلاشى كما بالسحر. لا أرى الجدران ولا الأثاث، لا شيء غير الضوء القوي المهيب يملأ الغرفة، سحابة من الروائح والعطور والعبق الأثيري وجثمان والدي في الوسط. 

رفع أخي بصره باتجاهي، ابتسم لي وترك لي المكان كما لوأن ما سمعته من والدي للتو، وصل إليه في نفس الوقت، تنحت أمي أيضا واضعة يدها على ذراعي ثم أدارت ظهرها للمشهد المقبل، عمتي تسير خلفها، في الخارج تكاد الشمس تتوسط السماء، لم يبق في الغرفة المضاءة للتو بوميض من نار وماء، غير جسد أبي الضخم والجميل، أخي كان ينظر إلى عيني مباشرة، إلى يدي اللتان احتضنتا جسم والدي البارد، شعاع من النار والجليد، اخترق قلبي، سيف ملتهب نفذ إلى أحشائي حينها أحسست والدي ينقل إلي طاقته. كنت أضخ إليه حرفيا دفئه ودموعه والماء الذي ينهمر فوق رجولته الندية، تمرير حقيقي للقوى، شيء لا ينسى. 

عشر ثوان من الإشراق فتحت بوابة العالم للقوى المتبادلة بين شاب في العشرين ووالده الذي نقل إليه صمت الأبدية بينما كان أخي الأكبر يمعن النظر متأثرا بالشرارة التي انطلقت من كل ركن، عندما عبر صدر المسافر العظيم صدري، عشر ثوان من التحكم الجليل بأسرار الحياة، لا ينسى. كان والدي يحدثني، حينها أمعنت النظر عبر النعش واقتربت من لحيته الناعمة والحنونة، أحسست أنفاسه تملأني بالنعيم، تعد سنوات عمري القادمة بالمصير العظيم لأولئك الذين ربحوا الجولة الكونية بدل الوجود الفارغ. سمعته يحدثني في النفس الأخير بأنه سيكون دائما بيننا ينير بإلهامه لنا ظلمة الأيام الرتيبة، ومعابر الصحاري الوعرة، وعدني بأن يأخذنا معه في المكان حيث يوجد، مع كوكبة من الحجاج، كلما أحس حاجتنا إلى حضوره الباهت، لكي يطهر أجسادنا من الغبار الزائف.

نهض أخي كما لو جذبه رمح من السماء، وأشار إلي بأن أترك والدي ليرقد في سلام، قد قيل ما يكفي لشخص يتوجب عليه الرحيل في الحال، مهما يكن لن تكون المرة الأخيرة التي سنمارس فيها هذه الطقوس نحن الثلاثة. منذئذ لم أعش تلك الطقوس إلا بين اثنين بيني وبين أخي أو بيني وبين أبي. لكني انتظرت إثني عشر سنة لكي أعود للتحدث مع والدي، اثني عشر سنة من الهدنة، اثني عشر سنة من الصمت المفخخ، اثني عشر سنة من الغضب والانكسار والحب المطمور. اثني عشر سنة من السفر الطويل المؤلم في أخاديد الزمن، هذا الزمن الذي لم يكن أبدا سوى وحشا منزوع الأحشاء آسن ولكنه طيع ومنقاد بشكل كبير لخطواتي الرتيبة. اثني عشر سنة مرت مثل برق دام ألف عام بكل تراكماتها، من السعادة المصطنعة والتخطي للأحاسيس، اثني عشر سنة أسفرت عن الشك بالزمن بدل زمن الشكوك.

هل مات أبي فعلا؟ هل ختمت القسمة محطاته، وجمعت رحالها مثله، عائدة إلى مكان لا أملك مفاتيحه ...أو بالأحرى ليس بعد؟

سنوات بعد ذلك، عشية يوم السبت، اتجهت إلى المقبرة حيث دفن جثمان والدي تكريما لأرض جاحدة، برأس تضاهي الريح وروح تغرق في غور الأيام، مهزوزا وصلت. لكن قبل أن أذهب لرؤية الرجل الذي ينتظرني منذ أيام. تبادلت بعض التمريرات من كرة القدم مقابل قطعتين نقديتين مع مجموعة من الأطفال الذين شكروني، كانوا جميعا بين السادسة والعاشرة من العمر، أجسادهم مفعمة باللهب، وعيونهم تنضح بالفرح والشغف الذي لا حدود له للإسفلت المعبد الذي احتضن جريهم المحموم، يتغذى على لهاتهم. 

عندما كانوا يهرولون ويثيرون الغبار كانت الأرض تتنهد امتنانا، يصرخون ويصرخون ويجرون خلف الكرة، يرمونها في كل اتجاه لا يهمهم من يلعب مع من، لم يكن هناك لا فرقة ولا منافسة، فقط كثلة من المطاط  تلتحم بالأقدام ، كل حسب نبضه وفرحه وغضبه ورغبته وحسب جسده أيضا، كان الصغار يتحدثون بلهجة تقريبا كنت قد اخترعتها قبل سنوات، لكنهم كانوا يستخدمون العبارات بأريحية كبيرة بينما كنا نجد صعوبة في تمرير تلك العبارات بيننا في الحي لأننا كنا قد اخترعناها لتونا، سيعيش ميراثنا دائما بين أبناء المقابر الذين يضمنون استمرار ماضينا وطفولتنا، يمنحون لحياتنا معنى، كانوا نحن وكنت أنا هم.

هذه الربع ساعة من الترويح الجسدي هي ما كان يلزمني قبل أن أذهب لأضع رأسي الملعون على جمال الفراغ والحب الكامن في أرضه، في قبره. من بعيد أشم رائحة الياسمين التي كانت تعبق قبل 
اثني عشر عاما من جسد أبي الهادئ، ملأت مسامي حتى الاختناق، لم أكن أقدر على التقدم، عند كل خطوة يستوقفني الشعور أكثر فأكثر. 

يفتح لي ذراعين شاسعين كأشرعة سفينة مسافرة. سفينة حقيقية بصاراتها وبحارتها، براميل مسحوق فارغة، بمئونتها وماءها، كله مجرد خشب يبحر في الفراغ. هو فلك حياتنا يبحر ثملا. أحسه يكبر في، يمد جذوره في أحشائي، يحفر في عروقي رؤى القديسين.

أتقلب، ثملا برائحة زهر الليمون، تملأ رئتي حتى الثمالة، منفوخا مثل بالون الأكروبات. دون انتظار شيء من أحد، تأتي فتاة ممتلئة تدعى مريم، اقترحت علي بعض الماء "لتسقي رفات العائلة ". 

 

يتبع..

عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب