الشطر الرابع عشر من رواية "أراضي الله"

لايف ستايل - 28-02-2024

الشطر الرابع عشر من رواية "أراضي الله"

اقتصادكم

 

هل أنا ألوم أمي؟ يا للسؤال؟  طبعا لا، ثم إن هذه الأخلاقيات اللعينة لا شأن لها هنا، حتى أنني لا أستطيع القول بأنني سامحت لأن ما كانت تفرضه علي كعقاب، كان جزءا من دورها كأم، وهو ما لم أكن لأفهمه بشكل مباشر، بالنسبة لي كان من الطبيعي أن تضرب أم ابنها، طالما كل الأمهات يفعلن ذلك لماذا لا تفعله هي؟ لم أكن لأفهم ما يحل بي وأنا صغير، لكني سرعان ما تعلمت التحمل وأنا أحمل على عاتقي تعاسة الآخرين

كنت نوعا من يسوع مصغر بدون لحية، لكن بقلب ينزف. لأن الحياة غرست أظافرها في عروقي وتركت فيها سمها، والذي نجح في النيل مني في سن الرابعة عشر. السن الذي أصبت فيه بأول محنة صحية وأمراض عديدة بعدها، عشتها في بداية سن العذابات.

سقطت صريع المرض بلا سبب واضح، أصبح السرير صديقي الحميم الوحيد، دافئ قليلا رغم كونه مبلل وغير مريح. صريع لمة شهرين عقبها إسهال وغثيان، وآلام بالرأس واضطرابات في المعدة، مبلل وغير مريح. صريع لمة شهرين عقبها إسهال وغثيان، وآلام بالرأس واضطرابات في المعدة،
اكزيما وبتور، تبول حارق، التهاب في الزائدة الدودية، انفلونزا شديدة، حمى الكلأ، بواسير، التهاب الملتحمة وعلل بدنية أخرى عرفت كيف تزج بي في جحيم حقيقي مما لا يمكن نسيانه.
 

بعد ذلك بدا لي الجحيم بشكله المنزل في القرآن مخفف بالمقارنةᴉ بل محلىᴉ ما الذي تعنيه نار إلــه غاضب مقابل ستين يوما من الهلاك والبكاء والتوجع، من الانزعاج المستمر وعدم الراحة والهذيان المجنون؟ ماذا يعني أن تبصق الملائكة في وجه خرج للتو من شقوق اللعنة؟ هراءᴉ ما يمكن أن يعاقب به الله الناس يبدو لي سخيفاᴉ الجحيم يوجد هناᴉ في الرابعة عشر كان علي أن أتجاوزه بأنفاس تئن وجسد عنيد وإيمان ثابت، لا زال يتنبأ لي بمستقبل أكثر ضراوة، ذلك اليوم عرفت بأنه محكوم علي بأن أتحمل العبء الثقيل لأولئك الذين اصطفتهم الحياة، تراتيل رفض يسوعية بمواجهة الظلم. الله غير عادل وأمي كانت نسخته على الأرض، والشارع كان ملعبه حيث يجلدنا كما تجلد بهائم نافرة، أو وحوش جائعة أو مخلوقات مترنحة ومجنونة.
 

مهما يكن، لا يجب النظر إلى ما أقوله كنوع من تصفية الحسابات مع الله وأوليائه. أنا أكثر رأفة وعدالة وإنسانية من كل الأولياء الذين عبروا هذه التربة. أريد فقط التذكير بأن عبورنا لهذا الطين الإلهي يجعلنا أسمى ما دام يمنحنا الغفران. وفي كل مرة، منذ ذلك اليوم عندما كنت في الثامنة من العمر وعندما رفعت يدي نحو الله لأطلب منه كرجل لرجل؛ معنى للعدالة وبما أنه لاذ بالصمت المطبق. منذ تلك اللحظة تحديدا، كلما تطلعت إلى زرقة السماء البهية، أراه يشيح عني بنظره متجنبا حقيقته في لون عيوني المتوهج، يعلم بأني نوعا ما وعيه على الأرض وأنه يوما ما سيخبرني بما أنتظره. لكني هنا أتوقع .... لله نحن وإليه راجعون، أليس هذا ما كان يقوله حكيم الحي؟ 

في العشرين من العمر، أفقد والدي الذي كان إلها حقيقيا مصنوعا من الدم واللحم والعظام، خالدا كأشعة الشمس التي تشرق كل صباح لتشمله بتكريم خاص لا ينسى.منذ ذلك اليوم، أصبح الوقت مجرد مهزلة كونية والفضاء كوكب رطب وفاسد. مات أبي في الوقت الذي كانت فيه قطة تضع صغارها على صدره، ليس أجمل من هكذا تكريم يمكن أن تقدمه الطبيعة لرجل. قطة تضع صغارها الأربعة فوق صدر أبي. نعم، أرى في ذلك كل ما يمكن أن يحمله العالم من رموز،بالنسبة لي، في تلك اللحظة تحديدا، كان أبي يدهس الأرض غير متأكد من كل الجنان التي من الممكن أن توجد. فجرا في شهر يونيو، شد والدي رحاله باتجاه الأبدية. 

كان قد قال لي ذلك المساء بأنه يرى رجالا بمظهر ولباس جميل وكان يبدو مثلهم، قالوا له بأن ساعة الرحيل قد اقتربت وبأنهم لن يذهبوا من دونه لأنه سيدلهم على طريق الرحلة. استيقظت القطة فجرا. تصفحت الجسد الرائع لوالدي مرتين، لعقت إصبعه المصفر بفعل خمسين سنة من التبغ، ثم سحبت صغارها الأربعة، أتذكر دائما لونهم، أخذتهم واحدا تلو الآخر، لأبعد مكان ممكن، ربع ساعة من العناء، لكي توفر لقطط الإله عشب الحديقة الرطب ورائحة الموت، مزيج من ماء الورد وزهر الليمون والياسمين، تغرف فوق جسد من كان على طريق الرجوع.

كنت أظن بأن والدي خالد لا يموت، لم أفكر أبدا في أن موته ممكن، بأننا سنتبع جثمانه في شاحنة تتقدمنا سيارة نقل الموتى التي تحمل جثمانه والرجال يقرؤون آيات من القرآن . كنت متأكدا أن هذا لا يحدث إلا للآخرين. أبي كان كل حياتي ولم أكن لأراها تستمر بدونه، هو لا يستحق الموت وإنما يستحق الخلود، كان جسده أساس يمثل جذوري التي منها أستمد استمراريتي وهو ما لم أستطع تجاوزه تحت أي ظرف. 

يعيش الجميع معتقدين أن الأهل باقون إلى الأبد. عندما يموتون، يبكونهم وتطوى الصفحة كما يتراكم الثرى فوق القبر ليخفي الجسد عن العيون تاركا سر الموت تحت التراب الأحمر إلى الأبد. لكن هذا الأبد هو ما يطرح التساؤل، الأبد كيف وأين؟ لأن" لماذا " نستطيع أن نفهمه، أهلنا يعيشون من خلالنا، لكن الزمان والمكان لا يتأثث بشكل ملموس، ما العمل؟ لا أعلم، لازلت لا أعلم لكني متأكد من شيء واحد؛ موت والدي، هو ما لن أتقبله أبدا.

لا أذكر أنني بكيت إلا عندما خرج أخي الأكبر من الحجرة حيث غسلوا جسده الطيع. بلا اعتراضسلم جسده ليدي أبنه الأكبر الذي يشبهه أكثر، الذي ورث عنه غضبه وحبه ورحابة روحه ، كان أبي حتى ذلك اليوم الشخص الأكثر نبلا، إذا كان للقدسية من معنى سيكون والدي تجسيدها المثالي. دموعي لم يكن لها طعم، أو بالأحرى كان لها طعم ترابي دفين، يصعد من أعماق أحشائي. كنت أسمعه وهو مستلق بالغرفة المجاورة. 

بجسد رخو ووجه مبتسم، يبدو عليه الارتياح، يقول لي: ابق جسدك فوق جسدي لبعض الوقت ولكن لا تذرف الدموع. هي ليست سوى إراقة للأحاسيس، ابق متنبها، إنها اللحظات الأقوى بحياتك، عشها بدون بكاء. سيكون هذا الحداد يوما ما بصمة على جبين الأبدية حيت أنت. تعال، ابق جسدك فوق جسدي لبعض الوقت، تنشق ملء رئتيك هواء قلبي البارد، تملى بحرارة الموت، اترك جسدك يشرب من نبع الحياة، تعال، أنا بخير.

 

يتبع..

عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب