اقتصادكم
كان يونس مولعا بتعلم اللغات، كان بمقدوره التكلم بسبع لغات أو ثمانية، حتى أنه قضى عاما كاملا يتعلم العبرية التي كان يجدها لغة فخمة.
في الثانوية كان يتسلى بترجمة يومياته إلى ست لغات، مستخدما تعابيره المميزة عند أساتذة اللغات الذين لم يسبق أن شككوا في صحتها." أنا شكسبير صغير" كان يقول" أؤلف الكلمات والتعابير، يجب أن نؤلف خطابنا الخاص في الحياة لكي نورثه للأجيال القادمة، لكنه أنتزع سريعا من الحياة. أحبه الموت أكثر فلم يتركه يكمل أحلامه. وبالفعل كان يقول، لأنه كان يعلم ذلك بمعنى ما، بأنه سوف يرحل سريعا "الرجال مثلي يعبرون سريعا، ولا يتأخرون، لا يجدون متعة في تأمل كوارث أهلهم". كنا نسخر منه لأنه يريد أن يموت شابا لكي يترك بصمته الفكرية، لكننا لم نكن لنتصور بأن نهايته تقترب على مهل، تختال غادرة، تشحذ مخالبها لتطعنه في الأحشاء وتمزق جسده الجميل. أخذتنا بكَرة الأيام، تغزل نسيجنا، لئلا نرى بأن الحياة تفرض قوانينها بالموازاة. تأخذ من تريد وتسرح الباقي على خط انتظار طويل كالحشد يوم الحساب.
أتى أصدقاء لزيارتي، علمت فورا ما كان مقدرا، ما كنت أعرفه بقلبي ولا أستطيع قوله، أحسست كما لو كان هو من أخبرني مباشرة عبر ثناياي،" قلت لك هذا، ظننت أنني أخدعك، ها قد أخذني الموت، ما رأيك؟" كان صوته يتردد في كل جزء من جسدي، هكذا استفقت كما لو أخذتني صاعقة، يونس اختطف ذهب بعيدا عني، وبدل أن أسألهم كيف وماذا حدث؟ تركت سيل الذكريات الجامح يجرفني.
كان يونس هنا أمامي، يدحرج الكرة، وهو يطلب منا أن نرى كيف تطيعه الكرة، كان هنا عاريا في الحمام يداعب عضوه، يهدي له طهارة الماء، سعيدا بالحياة. كان هنا على الشاطئ معا، أنا وحسن، يقرأ كتابا، معتدا بنفسه وقد حرقت الشمس جلده. كان هنا يحكي بأن الحياة هي ما نفعله، ليست جميلة أو قبيحة لكن ضرورية. وأخيرا كان هنا، يطلب مني ألا أبكي وأن أكتفي بتلاوة هذا القصيد كصلاة على سفره:
قزم أنت أيها الموت الصيفي
تنحى جانبا أيها الموت المضيء
أنا اليوم، تعلمت الحياة
اليوم، الحياة مفتوحة مثل نافذة على الخلود
يجب أن أمد يدا وقدما وأترك جسدي تنتزعه الأرض ليحيا.
نعم، يونس رحل إلى الابد، كان يجب إذن أن نغني، أن نرقص، أن ندور مع الريح ونصعد إلى السماء نحرق حماس شفاهنا العذرية على قرص الشمس المتحرك. نعم، يستطيع الموت أن ينزع أطقمه ويلهو معنا، هو أيضا يستطيع أن يرقص ويغني وهو يصطحب معه أعين صديقي الحادتين على طريق الأبدية لا، لن نبك، بالرغم من تشنجات القلب واحتراق الدم في العروق. لا، لن نسقط على هذا السطح الفارغ لنبدأ رقصنا الجنائزي، لا، ستكون جولة من الفرح، تكريما لموت صديقي، نعم، سنحتفي بالموت، ونحتفل بالموت، سننصب له نصبا تذكاريا هو أيضا، وسنمنحه اسما عندما تقبل الشمس وجه الأرض.
نعم، سنعلن اليوم افتتاح احتفالات زحل، احتفاء بالجسد وبالموت. سنعيش معه جنبا إلى جنب، نقدره ونحبه، ندللــه، نمنحه أرواحنا ما دام أخذ منا روح يونس. ما دام مختوما بطهارة روحه وصفاءها.
نعم، نحب الموت، ونحتفي به اليوم على أنقاض الماضي ووعود المستقبل. سنصوّغ أطرافنا المجنونة رحيقا له، ونحن ننادي بكل التعاويذ التي على الأرض، نتشارك وإياها رقصة الموت. نعم سنمشي معه على هذا الدرب الرطب، والنار على جانبيه والشمس بين الأيدي. يونس سيحمل هذه الشمعة التي ستبتعد وتفتح الطريق. هو بالفعل حامل للمشعل، حامل للماء في ربوع النسيان والحياة. يعيش هذا الموت الذي يستطيع أن يأتي ليأخذ حقه ويطالب بالاحتفال، يعيش الموت، وكل الذين اعتقدوا بأن الحياة معجزة. نعم، سنشق طريقا نحو الأبدية، ثم سوف نفتح دروبا أخرى، عندما يأذن لنا القلب بذلك، لكي نسمح لأطفالنا بالتقدم بخطواتهم نحو أراضي الموت التي لا مناص منها. سوف نذهب أيضا إلى أعماق أرواحنا، لنلامس جوهر هذه النهاية التي تتم تغذيتها كل لحظة لكي يكون يوم الانطلاق معبرا بلا آلام.
صليت طوال الليل وأنا أتلو مئات الأشعار التي كان يحبها كثيرا، وأنا أقطع له وعدا بالاستمرار بالحياة لكي يستمر حبه في داخلي. ذلك الوعد الذي حافظت عليه بكل الطرق التي استطعت دون أن أنسى للحظة أن يونس هو دائما قطعة مني، ذهبت بعيدا جدا وبأنه يجب علي ما هو أكثر من الحياة للوصول إليه يوما، نعم، رحل يونس إلى الأبد، لكنه حي دائما في داخلي.
يتبع...