الشطر العاشر من رواية " أراضي الله"

لايف ستايل - 24-02-2024

الشطر العاشر من رواية " أراضي الله"

اقتصادكم

 


بلوك الكدية لم يكن ذخيرة من الوجوه الراسخة فحسب والتي سوف أعيدها للحياة يوما متفجرة بين غضب وحب، بين رعب وغموض. كان أيضا مكان الآلام الأولى وأولى أشجان الحب. 

في سن العاشرة، عرفت مسبقا ما معنى أن تتنفس من أجل مخلوقة ألا تعيش الا لتراها تتحرك أمامك. عرفت مسبقا ما يفعله بك قضاء ليال كاملة تردد اسمها في الظلام. تحلم بأول كلمة ستقولها وأول قبلة ستمنحها، في سن العاشرة كنت مستعدا لاستقبال الحب.

 كان أسمها أمل. والأمل كان خطوتها البريئة. خصرها الممشوق وابتسامتها المرتابة كانت جميلة وجامحة. أبكر نموا مني. كان جسدها الناهد يتوعد مسبقا بالعطاء الذي يلعن الشياطين. سمراء معتدلة القوام وممتلئة. كانت دائما منشغلة بشيء ما، الخطوة خفيفة، المشية تقريبا متأنية كلبؤة في فترة استراحتها. ما كانت تظهره من شوق عند رؤيتي يجعلني مجنونا بالكامل. نعم يجعلني مريضا، محموما، أرتعد وأهذي وأتنقل من مرض إلى آخر. أتذوق من كل معاناة، راضخا وسعيدا.

 تكلمنا أول مرة أمام الفرن يوجد بالدرب الذي خلف بيتنا. فأل حسن أن أسمع صوت من أحب أمام كل هذا الخبز المرفوع لسعادة الرجال، أمي أعدت لنا خبز الذرة المفضل المحلى، كانت تزينه بجرارة صغيرة ترسم بواسطتها عدة أشكال على الخبز. كان خبز الذرة تحفة فنية لن أنساه طوال حياتي. هي أيضا، كانت تنتظر في الفرن فطائر كبيرة والتي لحسن حظي تأخرت في الوصول. عندما سلمني الولد الذي يعمل بالفرن لوح الخبز الرائع بالذرة، مددت لها كسرة من الخبز. كانت قد منحتني أجمل شكر سمعته طوال حياتي المقرفة، صوتها الملائكي تحدث مباشرة إلى قلبي. لم أعرف ما أقول. 

لم أعرف ما إذا كان علي الانصراف أو انتظار الفطائر معها، أو كما استولت علي الرغبة في أن أقول لها بأني أحبها منذ يوم ولادتي وبالتأكيد إلى يوم يطلب الله شخصيا محاسبتي. كنت أتساءل أيضا إذا كان من الأفضل أن أقفل فمي وأعود إلى منزلي ألتهم خبز الذرة والشاي بالنعناع على المائدة الخشبية المستديرة، المغلفة بغطاء مورد ينجب العديد من التعليقات أثناء تجمعنا كل مساء حول أمي. لكني بقيت عالقا بين ابتسامة غافية ووجه يحترق من الرغبة وبين أن أقول لها بأن تأتي فورا للعيش معنا، لأننا نحظى بأم رائعة تعد لنا كل يوم خبزا بالذرة.

 أمل منحتني يدا رقيقة فتحت لي أبواب الجنة. فركت أصابعها فبدأت الحياة تتناثر أمامي مثل أيام ما كنا نربح مباراة كرة القدم بعشرين سنتيم للاعب ضد الفرقة المنافسة. نفس الفرحة ونفس الحماس، نفس الحمى التي تهز جسدي ذا العشر سنوات وأحسني أيضا كبير مثل أخي البكر الذي يعدني بمستقبل مميز، ككل هؤلاء الذين يتجولون على الإسفلت الدبق في الشارع حيث نسكن. كل ما أريده هو أن أركع على ركبتي أمام أمل وأن أقول لها، في أكثر صلواتي جنونا، بأنها كانت ملاكا وأن الله بلا شك حطها في العالم لكي تخرجني من هذه الحفرة المفقودة. لكني لم أقل لها أي شيء. كانت تعرف ما كنت أحسه. لم أكن أبدا بحاجة لأن أتكلم.

 أمل كانت تعرف وهي تكتفي بابتسامة، تفتح لي معبرا للنجاة وملاذا للنسيان ومعبدا للسلام. بعدها، حين كنا لا نفترق أبدا، كنا نقضي أياما كاملة في السرير، عراة كعصفورين من الجنة، لم تكن تتكلم أبدا، دائما نفس الابتسامة لكي تقول بأنها تحب، بأنها كانت سعيدة، بأن الحياة تمنحنا اللحظة، زبدة أسرارها وأنه لا يجب إفساد ذلك بالكلمات. حتى يوم غادرت حياتي، وتركتني أبكي كالمجنون، تائها في شوارع المدينة الكئيبة والمظلمة، لم تتكلم بغير ابتسامة مختلفة عن تلك التي اعتدت عليها، وهي تعيد ترتيب شعرها. تم أدارت ظهرها للحي ولعالمي، للشغف الذي يفترسني. أمل رحلت وتركتني في الحفرة التي كانت قد أخرجتني منها، قبل سنوات، بنفس الابتسامةᴉ ابتسامة الله وهو يصدر الملاعين إلى جهنم. ابتسامة هادئة، مطمئنة، واضحة وجميلة.

 

يتبع..

عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب