التنمية الترابية.. الطريق نحو تجاوز العجز وخلق الثروة المحلية

الاقتصاد الوطني - 12-11-2025

التنمية الترابية.. الطريق نحو تجاوز العجز وخلق الثروة المحلية

اقتصادكم

 

يكرس مشروع قانون المالية لسنة 2026 توجهاً جديداً في مقاربة التنمية الترابية، من خلال تخصيص 5 مليارات درهم لبرنامج التنمية الترابية المندمجة (PDTI) و2,8 مليار درهم لتمويل 36 مركزاً قروياً ناشئاً (CREM) في مرحلته التجريبية. وتمثل هذه الاستثمارات نقلة نوعية في فلسفة التدخل العمومي، إذ لم تعد التنمية تقتصر على تصحيح العجز في البنيات التحتية، بل أصبحت تهدف إلى خلق الثروة المحلية وتعزيز رأس المال الترابي.

الخلفية العامة للبرنامجين

تم إطلاق برنامج التنمية الترابية المندمجة (PDTI) استجابة للتوجيهات الملكية الواردة في خطاب العرش بتاريخ 29 يوليوز 2025، وتُوِّج بلقاء استراتيجي أول في تطوان في فاتح غشت من السنة نفسها. ويأتي هذا البرنامج امتداداً لمسار طويل من السياسات العمومية الهادفة إلى العدالة المجالية والتنمية البشرية المستدامة، من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH) سنة 2005 إلى برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية (PRDTS) خلال الفترة 2017-2023.

أما المراكز القروية الناشئة (CREM)، فقد تم تحديد 542 مركزاً في دراسة أُنجزت سنة 2017، منها 77 مركزاً اعتُبرت ذات أولوية. أُطلقت المرحلة الأولى سنة 2019 وشملت 12 مركزاً (واحداً بكل جهة)، قبل توسيعها إلى 24 مركزاً إضافياً في المرحلة الثانية. وجاء خطاب العرش لسنة 2025 ليعيد صياغة نموذج هذه المراكز بشكل أكثر اندماجاً وتكاملاً مع برامج التنمية الجهوية.

الأهداف والمقاربة الجديدة

تركز الاعتمادات المالية المخصصة على تحسين البنيات التحتية والخدمات الأساسية، لكنها تتجاوز المنطق التقليدي لـ"الرَّدم البنيوي" نحو الاستثمار في الرأسمال المحلي والخصوصيات الترابية.

الغاية ليست فقط بناء الطرق أو تجهيز المراكز، بل تحفيز دينامية اقتصادية محلية تُولِّد أنشطة إنتاجية وفرص شغل للشباب والنساء، وتشجع الاستثمار الخاص.

يمتد الأثر الاقتصادي لهذه البرامج عبرتخفيض كلفة تنقل الأشخاص والبضائع والمعلومات؛ تحسين جاذبية الأقاليم للاستثمار الوطني والأجنبي؛ خلق فرص عمل مباشرة (في البناء، النقل، الخدمات...) وغير مباشرة (من خلال الأنشطة الاقتصادية الجديدة)؛ تعزيز التماسك الاجتماعي والمجالي.

التحول في فلسفة التدخل العمومي

تمثل هذه البرامج قطيعة مفاهيمية ومنهجية مع المقاربات السابقة. فبعد أن كانت البرامج تركز على تقليص الفوارق المجالية وتحسين الخدمات، أصبح الهدف الآن هو خلق الثروة المحلية عبر تثمين الموارد الطبيعية والبشرية والمعرفية، وتأسيس سلاسل قيمة محلية تستند إلى إمكانيات كل مجال ترابي.

كما يندرج هذا التوجه ضمن دينامية الجهوية المتقدمة، من خلال تعزيز التنسيق بين مختلف مستويات القرار (المركزي، الجهوي، الإقليمي والمحلي)، وإقامة شراكات تعاقدية بين الدولة والجماعات الترابية.

الحكامة وآليات التنسيق

تعتمد فعالية هذه البرامج على حوكمة مندمجة ومرنة تجمع بين مختلف الفاعلين العموميين والمحليين.
يقترح الخبراء إرساء لجان جهوية لقيادة وتتبع البرامج تشرف على التخطيط المندمج وتنسيق الميزانيات القطاعية؛ آليات رقمية لتدبير المشاريع تضمن الشفافية وتسريع اتخاذ القرار؛ مقاربة تشاركية تدمج المجتمع المدني والمواطنين في مراحل التخطيط والتقييم.

مؤشرات الأداء والتقييم

لقياس أثر هذه البرامج، سيتم الاعتماد على مؤشرات كمية ونوعية تعكس التحول الاقتصادي والاجتماعي للمناطق المستهدفة، من بينها عدد مناصب الشغل المستدامة المحدثة؛ نسبة تنفيذ الميزانيات المخصصة؛ حجم الاستثمارات الخاصة المعبأة؛ تحسن الولوج إلى الخدمات الأساسية (تعليم، صحة، ماء شروب)؛ نسبة استفادة الشباب والنساء؛ مؤشرات بيئية واستدامة لضمان الأثر الطويل الأمد.

تحديات واستدامة

يأتي تنفيذ هذه البرامج في سياق سياسي خاص، قبل سنة من الانتخابات التشريعية وسنتين من الانتخابات المحلية، مما يفرض ضمان استمرارية السياسات العمومية وتحصينها من التقلبات السياسية.
كما يتطلب النجاح وضع حوافز مالية ومؤسساتية واضحة، وتحديث الإطار القانوني المنظم للجماعات الترابية، خاصة القوانين التنظيمية الثلاثة التي تؤطر عملها.

ويمثل برنامج التنمية الترابية المندمجة وبرنامج المراكز القروية الناشئة ركيزتين أساسيتين في الرؤية الجديدة للتنمية بالمغرب. فالهدف لم يعد فقط سد الفجوات البنيوية، بل تحويل المجال الترابي إلى فضاء إنتاجي قادر على خلق القيمة والثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية.

إن نجاح هذه المقاربة مرهون بقدرة الدولة والجماعات على الانتقال من منطق النفقات إلى منطق الاستثمار المنتج، بحيث يصبح كل درهم عمومي مستثمراً في خدمة نمو شامل ومستدام، مندمج ومتمركز حول المواطن.