الشطر السادس عشر من رواية "أراضي الله"

لايف ستايل - 01-03-2024

الشطر السادس عشر من رواية "أراضي الله"

اقتصادكم

 


 الصغيرة أتت من حي من الأحياء الفقيرة بضواحي المدينة، لكنها كانت تملك ماءا مباركا للغفران ونظرات ثاقبة لأولئك الذين اعتادوا ري عطش الموتى.
 
يطلبني والدي إليه، أسمع صوته كما قبل اثني عشرة عاما، يخبرني بأن الوقت قد حان وأن المسافة بيننا وهمية تماما كتلك التي تفصل جنينا عن أمه. مريم المتبرعة بالماء، أحست باضطراب حالتي وبالقلق الجميل الذي حرك خطواتي نحو الإسفلت الذي يأخذني إلى محراب الحب.
- ألم تزر مقبرة من قبل؟ باغتتني مريم.
- بلى، لماذا؟ أجبتها مدعيا.
- العيش طويلا بين الأموات يجعلنا نفهم الأحياء جيدا، تقدم. من هذا الذي قدمت لزيارته؟ 
- أبي.
- يجب أن تمنحه ليشرب. تحوم الملائكة حول رأس الميت عندما نسكب عليه الماء.
- كيف تعرفين ذلك؟ قلت مستنكرا، متلهفا لمعرفة ما تعرفه.
- أعرف ذلك وستعرفه أنت أيضا، تؤدبني مريم بشكل هادئ لتشذب قلة صبري.

الطريق الذي يؤدي إلى قبو العائلة حيث دفن أجدادي من جهة والدي، عمتي وزوجها، قريبي الذي لم يسبق أن تعرفت به، وابنة عمتي التي ماتت في عمر العشر سنوات، وذلك حدث منذ زمن بعيد كالسماء،لكن رائحة والدي ما زالت تلتصق بمنخاري، لا تنسىᴉ كان أبي إذن مستعدا لملاقاتي عنده رفقة أصدقائه ليقول لي، اثني عشرة عاما مضت وما زال الرابط بيننا أكثر مثانة من ذي قبل، فالفراق ليس أبدا جسديا بين الأفراد وحتى روابط القرابة والدم ليست أبدا دليلا على قوة الروابط بين الناس.
  المقابر هي الأماكن الأكثر سلمية بالعالم، والأكثر عبقا، والأكثر حيوية، ونشاطا أيضا.

 لا أتحدث عن جماع الموتى، بل عن متاهات هذه القبور، عن تجمعها في شكل طابور ينتظر يوم الحساب في الآخرة، بينما يتربع الله على عرشه المتعالي، يحاول أن يستسيغ كل هذه الحشود المستلقية، والنشيطة فيما بينها وهي تتحدث عن الأيام الخوالي والمليارات من الأحياء التي سوف يتتبعونها، وهم يقولون لأنفسهم كم هو رائع أن تكون إلها، مترفعا، بصيرا، مستقلا، يتأمل في كارثة الخلق اللاشعورية. ولكن في المقابر، تخلق صداقات، أرواح تتضامن لتشكل حصونا منيعة أمام الله نفسه، هو الذي حسب قول الصغيرة مريم، يراقب أفعالهم عن كثب كحارس يقظ في منظمة سرية للمتاجرة المكثفة بالأحياء ومصائرهم. من هم هؤلاء الأموات الراقدون في ترقب قاس يجترون الأبدية لقاء يوم يستجيب فيه الله أمام مليارات الأحياء؟

من الذي طلبهم إليه في أكبر تجمع للحشود التي لا تحصى، والذين سيعودون للحياة يوما ما بأشكال معينة لأجل الحساب؟ من الذي طلب من هذا اللحم المهلهل، من هذه الأشلاء المرتخية أن تتحلل تحت الترابلقرون طويلة قبل أن يتفضل عليها بنظرة، قبل أن يمنحها فرصة الحديث عما يخالجها؟ 

- الله أكبر ورحيم بنا جميعا، تقول مريم، المتبرعة بالحياة، وهي تضع غطاء أحمر على رأسها المحموم جراء شمس الموتى.
- لديك عائلة مدفونة هنا، مريم؟
- أمي وأخي، ليس بعيدا عن هنا، أسقي قبرهما كل يوم لتأتي إليهما الملائكة، تنشد لهما ألحانا من الجنة. 
   تقترب الشمس من ساعة الظهيرة، نشعر بصرير الإسفلت، منساقا لغضبه، والهواء كان جافا. 
- هل أنت متأكدة من أن الملائكة تغني لتخفف عنهما معاناتهما؟
- لا، إنهما لا يعانيان، أنا معهما طول الوقت، أعرف أنهما بخير، يسمعانني عندما أكلمهما، في الليل خلال نومي يأتيان ليستطلعا أخبار العائلة، والأصدقاء والأقارب، كذلك أنت قريبا ستحظى بزيارة ليلا 
كن مستعدا.

بماذا أجيب بعد هذا؟ لا شيء، فقط أقفل فمي ثم لا أتحمس لنقاشات قد تكلفني في كل لحظة ذرة من جسمي. على أي، تعرف هذه الفتاة فصلا كاملا عن أسرار العالم الآخر، عالم الموتى، المقابل حسبما تقول لعالمنا، ولكنه الأكثر ثباتا، هنا ايضا لم أرفع رأسي، أقفلت فمي، كان يجب فقط أن أتجول بنظري عبر مسالك الصمت وجدران الجير الأبيض والنباتات المحروقة التي تخشخش تحت خطوي، أنا الخطاء الفاني حتما. يوما ما سأكون هنا تحت الأرض، سيكون لدي كل الوقت لمعرفة كل هذه الأشياء عن كثب. ستكون لدي أوقات فراغ كافية لتعميق معرفتي بمفهوم سياسة الموت عند الله. 

لماذا الاستعجال؟ ماذا تعني الحياة في السلم الزمني الإنساني؟ مائة عام من العيش ليست سوى طرفة عين في مساحة العالم وتطوى الصفحة. ثم يبدأ فصل جديد سيكون لي حتما فضل كتابته مستخدما عظامي ودمي وجلدي كورق البردي عظامي المتفحمة هي الطباشير الذي سيكتب به قلبي، هذا الذي رغم الزمن، وتغير الأمكنة، سيكون أول من يأتي وآخر من يستسلم، القلب هو الكتاب المفتوح لدى السماء حيث يقف الحق بوجه الأكاذيب وحيث الكلمات مكتوبة في الدم وبالدم بلا خطوط.

 

يتبع..

عنوان الرواية : أراضي الله
المؤلف: عبد الحق نجيب