اقتصادكم
بين عامي 2020 و2025، اختارت ثماني شركات مغربية دخول عالم البورصة، في ما يشبه ولادة دورة جديدة من الاكتتابات العمومية الأولية (IPO) أعادت لسوق الرساميل الوطني جزءاً من دوره الأصلي كقناة لتمويل الاقتصاد. وقد بدأت هذه الدينامية بشكل محتشم مع إدراج شركة أراضي كابيتال نهاية 2020 خلال فترة الجائحة، قبل أن تتسارع الوتيرة مع إدراج شركات TGCC، Disty Technologies، Akdital، CFG Bank، CMGP Group، Vicenne ومؤخراً Cash Plus وSGTM.
وخلال خمس سنوات فقط، تمكنت هذه الشركات من تعبئة حوالي 5 مليارات درهم عبر السوق الأولي، ومنه يرى المتابعون أن هذه الدينامية الجديدة تبين عودة البورصة تدريجياً إلى دورها المركزي في تمويل الاقتصاد، خاصة مع دخول شركات متوسطة الحجم تنشط في قطاعات متنوعة وغالباً مدعومة من مستثمرين في رأس المال التنموي.
وفي تقديم اكتتاب شركة Vicenne، صرح يونس بنجلون، الشريك المؤسس والمدير العام لـCFG Bank، بأن السوق يعرف صعود “منظومة” متكاملة تنمو فيها الشركات تدريجياً، ثم تنفتح على رساميل جديدة عبر رأس المال الاستثماري قبل اللجوء إلى البورصة لتمويل مراحل توسعها التالية.
وقال بنجلون:«انتقلنا من إيقاع اكتتاب واحد في السنة إلى وتيرة قد تصل قريباً إلى ثلاثة. الهدف الأسمى هو الوصول إلى عملية إدراج كل شهر». وأضاف أن تسريع الوتيرة سيسمح بتمثيل أفضل لتنوع الاقتصاد المغربي، متحدثاً عن قطاعات لا تزال غائبة عن البورصة مثل صناعة السيارات والنسيج.
مشاركة قياسية… وعودة ثقة الأفراد
بلغ مجموع المبالغ المكتتبة في الاكتتابات الأخيرة 114,4 مليار درهم، لكن الأبرز كان المشاركة غير المسبوقة للمستثمرين الأفراد. فقد استقطبت Vicenne أكثر من 37 ألف مكتتب، وهو رقم قياسي في تاريخ السوق المغربي، بينما تجاوز عدد المكتتبين في CMGP حاجز 33 ألفاً. ووصلت معدلات تغطية الاكتتاب مستويات استثنائية: 64 مرة لـVicenne و37 مرة لـCMGP
هذه الأرقام توضح عودة حقيقية لشهية الاستثمار في الأسهم، مدفوعة بتسهيل الولوج الرقمي إلى السوق والتغطية الإعلامية الواسعة لهذه العمليات. ويؤكد الوسطاء الماليون ارتفاعاً كبيراً في فتح حسابات الأسهم منذ نهاية 2023، خصوصاً لدى الشباب في المدن الكبرى.
ويقول أحد مديري شركات البورصة:«عادت الاكتتابات لتصبح لحظات للتربية المالية الجماعية… وهي تساهم في إعادة الثقة بين الأسر المغربية والاستثمار في الأسهم».
اقتصاد حقيقي أكثر حضوراً في البورصة
تظهر الموجة الجديدة من الاكتتابات صورة أكثر واقعية للنسيج الإنتاجي المغربي. فالقطاعات الممثلة—البناء والأشغال العمومية، الصحة، الفلاحة، والخدمات المالية—تعكس التحولات الكبرى للعقد الحالي: التمدّن، الأمن الغذائي، وتطوير الرأسمال البشري. وتتباين هذه التركيبة مع السنوات السابقة حين كانت البورصة متركزة على البنوك والعقار والاتصالات. أما اليوم، فهي تستقطب شركات نموّ تتماشى مع التحولات الاقتصادية الجارية.
كما أن طبيعة العمليات نفسها تغيرت من خلال زيادات في رأس المال تفوقت على عمليات بيع الأسهم، ما يدل على أن الشركات تبحث فعلاً عن تمويل توسعها، تحسين واضح في معايير الحوكمة والتدقيق والتواصل المالي، وبدء تنشيط السوق البديل الذي ظهر جلياً مع إدراج Disty Technologies كنموذج مبسط ملائم للمقاولات الصغيرة والمتوسطة.
تحديات مستمرة رغم التقدم
ورغم هذه الدينامية، لا يزال السوق الأولي ضيقاً مقارنة بحجم الاقتصاد الوطني. فحصة الرسملة العائمة من الناتج الداخلي تبقى ضعيفة، والسيولة على بعض القيم الجديدة تتراجع سريعاً بعد مرحلة الإدراج. كما يستمر ضعف الحضور الأجنبي في السوق، ما يحدّ من عمقه وقدرته على امتصاص صدمات العرض والطلب.
ويجمع المحللون على أن التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة هو تحويل الحماس الظرفي إلى مشاركة مستدامة. وهذا يمر عبر تعزيز المعلومات الموجهة للمستثمرين الأفراد، اعتماد سياسات توزيعات أرباح واضحة، وتطوير دور شركات الوساطة في مرافقة الشركات بعد الإدراج.
بفضل جيل جديد من الشركات ونسبة مشاركة غير مسبوقة للجمهور، تعود بورصة الدار البيضاء لتلعب دورها كرافعة حقيقية لتمويل الاقتصاد. وإذا استمرت الدينامية الحالية ووجدت حلولاً لتحديات السيولة والعمق، فقد تتجه السوق نحو مرحلة نضج جديدة تُعيد رسم علاقتها بالمستثمرين وبالاقتصاد الوطني ككل.