اقتصادكم
يبدو أن الاقتصاد المغربي بدأ يتحرر تدريجياً من الارتباط التاريخي بالتساقطات المطرية، حيث أصبحت الصناعة، والخدمات، والسياحة تشكل اليوم محركات رئيسية للنمو، في وقت تتراجع فيه الزراعة تحت تأثير موجات الجفاف المتكررة.
على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، تميز النمو الاقتصادي في المغرب بعدم الاستقرار، إذ كان يتأرجح بين الصعود والهبوط تبعاً لمواسم المطر. فقد كانت الأداءات الاقتصادية مرتبطة بشكل وثيق بالإنتاج الفلاحي، مما جعل النمو هشاً ومعتمداً على تقلبات المناخ.
لكن، منذ نحو أربع سنوات، بدأ يظهر تحول هيكلي واضح، حيث أصبحت وتيرة النمو أقل تأثراً بالجفاف، حتى في سنوات الجفاف الشديد، تواصل الأنشطة الاقتصادية تقدمها.
ويُرجع الخبير الاقتصادي إدريس الفينة هذا التطور إلى صعود قطاعين أساسيين، القطاع الصناعي الذي برز من خلال فروع قوية مثل صناعة السيارات والطيران، والقطاع الثالثي (الخدمات) الذي عرف طفرة في مجالات السياحة، والمصارف، والتجارة، حيث عوضت هذه الدينامية الجديدة تراجع الزراعة، وأسهمت في استقرار النمو الوطني على مدى السنوات الأخيرة.
تحول هيكلي
وأكد إدريس الفينة أن هذا التحول ليس مؤقتاً، لأن المغرب يعيش اليوم ندرة مائية بنيوية، حيث أصبح المستثمرون واعين بأن الاستدامة الاقتصادية تمر عبر التنويع. حتى الفاعلون الزراعيون الكبار باتوا يدركون أن أي مشروع فلاحي ناجح يجب أن يعتمد على أنظمة ريّ آمنة. ولهذا أطلقت وزارة الفلاحة برامج كبرى في مناطق مثل سوس-ماسة، معتمدة على محطات لتحلية مياه البحر، مثل محطة سيدي رحال التي ستسمح قريباً بسقي 100 ألف هكتار.
ويرى الخبير أن هذا النموذج من "الفلاحة المرنة" سيتوسع تدريجياً ليشمل مناطق أخرى، على غرار ما فعلته أستراليا في بيئة مناخية شبيهة. ويُضاف إلى ذلك صعود القطاع المنجمي، ممثلاً في المكتب الشريف للفوسفاط (OCP) وشركات أخرى، والتي تضيف قيمة مضافة مهمة للاقتصاد الوطني.
بطالة مرتفعة... لكنها ظاهرة انتقالية
رغم هذا التحول، يبقى معدل البطالة مرتفعاً، إلا أن إدريس الفينة يرى أن هذا الوضع طبيعي في الاقتصادات التي تمر بمرحلة تحول عميق. في المغرب، يتم قياس البطالة عبر المسوح الميدانية وليس عبر التسجيل الإداري كما في الدول المتقدمة، مما يجعل المعدلات تبدو أعلى نسبياً.
كما تلعب الهجرة الداخلية دوراً مؤثراً، إذ ترفع تدفقات المهاجرين من القرى نحو المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وطنجة معدلات البطالة هناك، رغم أن هذه المدن تخلق باستمرار فرص عمل جديدة.
ويشير الفينة إلى أن معظم العاطلين في المدن هم وافدون جدد ما زالوا في طور الاندماج، مما يفسر جزئياً هذا المعدل المرتفع.
تكوين مهني لتقليص الفجوة
يؤكد أفينة أن الحل لمعضلة البطالة يكمن في التكوين المهني القصير المدى، خصوصاً في المناطق القروية وشبه الحضرية القريبة من المدن الكبرى، فالطلب سيرتفع بشكل حاد في قطاعات مثل البناء والأشغال العمومية، التي ستشهد نمواً كبيراً بفضل مشاريع البنية التحتية المرتبطة بكأس إفريقيا للأمم 2025 وكأس العالم 2030.
ويتوقع أن تبلغ ذروة النشاط سنة 2028، محذراً من أن عدم الاستعداد المسبق سيعني ضياع فرصة تاريخية.
ويضيف أن على السلطات دعم الشركات القائمة التي تملك الخبرة والقدرة على التوظيف ونقل المعرفة، بدلاً من الاقتصار على منح القروض للشباب من دون تجربة، وهو ما أثبت محدوديته لأن كثيراً من المشاريع تفشل بسبب نقص الخبرة.
ريادة الأعمال ليست للجميع
يرى الفينة أن الريادة لا تُرتجل، فـ"في كل الاقتصادات، لا تتجاوز نسبة من يصبحون رواد أعمال حقيقيين 5% من السكان، بينما ينجح الباقون كأجراء مؤهلين". ويضرب مثلاً بشاب حصل على قرض بقيمة 9 ملايين درهم لإنشاء مطبعة في أكادير، لكنه فشل خلال بضعة أشهر لأنه لم يعمل يوماً في هذا القطاع.
ويخلص الفينة إلى أن النجاح الاقتصادي لا يتحقق بالمال فقط، بل بالمعرفة والتكوين الجيد والاستعداد، ويؤكد أن على المغرب أن يركز على هذه المقاربة إذا أراد تحويل نموه الحالي إلى تنمية مستدامة وشاملة تمس كل فئات المجتمع.
عن "Finances news hebdo " بتصرف