اقتصادكم - محمد بوعزاتي
بعد سنوات من التحفظ على العملات الرقمية وتقنيات البلوكتشين، يبدو أن المغرب يسعى بخطى واثقة لوضع إطار قانوني واضح لهذا القطاع الواعد. ففي شتنبر الماضي، أعلن والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، أن مشروع القانون الذي أُعد بالتعاون مع البنك الدولي سيُعطى أولوية لمناقشته في البرلمان وإخراجه إلى حيز التنفيذ، تمهيدا لمنح الرخص وضبط النشاط ومراقبة المعاملات المالية.
لكن هذا التحول يتطلب استعدادات اقتصادية وبشرية قوية لضمان استفادة المغرب من الفرص التي يوفرها القطاع الرقمي الجديد، مع ضرورة مواجهة تحديات تنظيمية وتقنية للحفاظ على سلامة المعاملات وتعزيز الثقة لدى المستثمرين والمواطنين على حد سواء.
في هذا السياق، يرى الخبير في البلوكتشين والعملات الرقمية بدر بلاج، في تصريح لموقع “اقتصادكم”، أن التحول المغربي من المنع إلى التنظيم جاء نتيجة تغير النظرة العالمية لهذا القطاع، وتزايد عدد المستخدمين المغاربة الذين يتراوحون، وفق تقديرات مختلفة، بين مليون وستة ملايين مستخدم.
من الحظر إلى التقنين
يؤكد بلاج أن قرار بنك المغرب بالاتجاه نحو التقنين لم يأتِ من فراغ، بل استند إلى تطورات دولية بارزة مثل صدور قانون “ميكا” (MiCA) في الاتحاد الأوروبي وتقنين العملات المستقرة في الولايات المتحدة.
ويضيف أن هذه التحولات جعلت المغرب يعيد النظر في مقاربته السابقة، خصوصا بعد اتساع حجم المعاملات الرقمية إلى ما يفوق 12.7 مليار دولار سنة 2024، ما يجعل تجاهل هذا الاقتصاد أمرا غير واقعي.
ويشير إلى أن الدرهم الرقمي يمثل فرصة حقيقية لتعزيز الشمول المالي وتقليص السوق السوداء التي نشأت بسبب منع التداول، وهو ما سيمكن الدولة من تحصيل الضرائب، تطبيق قوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتحقيق الشفافية في المعاملات.
جذب استثمارات بالمليارات
ويلفت الخبير إلى أن تقنين هذا القطاع من شأنه أن يجذب استثمارات عالمية ضخمة من شركات تبحث عن منصة آمنة للدخول إلى السوق الإفريقي. فالمغرب، من منظور مالي، يُعد بوابة القارة الإفريقية، مستحضرا زيارة سابقة لرئيس منصة “Binance” إلى بنك المغرب، في إشارة إلى الاهتمام الدولي المتزايد بالسوق المغربية في مجال الأصول الرقمية.
ويؤكد أن هذه الشركات لا تحتاج لتحفيزات ضريبية أو استثمارات في البنية التحتية، بل فقط إطارا قانونيا واضحا ومنظومة اتصالات جيدة، وهما متوفران في المغرب. كما سيفتح التقنين المجال أمام الشركات المغربية التي هاجرت إلى تركيا والإمارات للعودة وتطوير خدمات موجهة للسوق الإفريقي والعالمي.
تأخر تشريعي يهدد التنافسية
رغم توفر المغرب على قاعدة مالية قوية ومنظومة قانونية مؤطرة للقطاع البنكي، يرى بلاج أن التحدي الأكبر يكمن في بطء الجهاز التشريعي في مواكبة التحولات التكنولوجية.
ويستحضر مثالا من الماضي حين استغرق إخراج قوانين المالية التشاركية والتمويل الجماعي (Crowdfunding) سنوات طويلة
ويحذر من أن التأخر في إصدار القوانين الخاصة بالأصول الرقمية قد يؤدي إلى فقدان تنافسية المغرب أمام دول مثل الإمارات والسعودية، التي وضعت منذ وقت مبكر أطرها القانونية وجذبت شركات كبرى في مجال التشفير والتكنولوجيا المالية.
وبخصوص التوقيت المتوقع للمصادقة على القانون، يستبعد خبير العملات الرقمية حدوث ذلك في 2025 أو حتى خلال 2026 مع الانتخابات المقبلة. ويرى أن بداية 2027، أو نهاية 2026 في أحسن الأحوال، هو السيناريو الأكثر واقعية، خاصة أن المشروع متبنى من بنك المغرب وليس من الحكومة، ما يطرح تساؤلات حول الدعم السياسي الكافي لتسريع المسار التشريعي.
نزيف الكفاءات الرقمية
أحد أكبر التحديات، حسب بلاج، هو نزوح الكفاءات المغربية نحو الخارج نتيجة سنوات من المنع وغياب فرص التطوير المحلي.
ويؤكد أن المغرب يواجه “فراغا حقيقيا في القدرات البشرية المتخصصة”، رغم الطلب الهائل على المهندسين والمطورين في هذا المجال.
ويشير إلى أن الأجور في قطاع البلوكتشين والعملات الرقمية تفوق ضعف أجور من يعملون في ترحيل الخدمات، ما يستوجب إدراج العنصر البشري ضمن الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي، وليس الاكتفاء بسنّ القوانين.
ما الذي يحتاجه المغرب الآن؟
يشدد بلاج على ضرورة صياغة استراتيجية وطنية شاملة تحدد أهداف المغرب من هذا الاقتصاد الناشئ: هل يسعى لجذب الاستثمارات الأجنبية فقط؟ أم لإنشاء صناعة وطنية في مجال الأصول الرقمية كما فعل مع قطاع السيارات؟
ويعتبر أن وضوح هذه الرؤية سيحدد موقع المغرب في المنافسة الإقليمية والدولية، خاصة وأن له ميزة مالية واتصالية قوية داخل إفريقيا يمكن أن تجعل منه مركزاً إقليمياً لتكنولوجيا البلوكتشين.
ويحذر من أن النقاش الحالي يتركز فقط على الجانب القانوني، في غياب رؤية وطنية واضحة تحدد الأهداف المرجوة من هذا القطاع، سواء في بناء شركات مغربية رائدة أو تطوير صناعة محلية متكاملة.
موريشيوس: نموذج ملهم
يستشهد بلاج بتجربة موريشيوس كمثال على ما يمكن تحقيقه. هذه الدولة الجزرية الصغيرة استطاعت، بفضل إصدار حزمة قوانين مرنة في 2024، جذب شركات عالمية لخدمة السوق الإفريقي. بل وشهدت ظهور شركات محلية بلغت قيمتها مليار دولار والتي أسسها أفارقة استفادوا من الإطار القانوني المشجع والإعفاءات الضريبية.
ويضيف: “المغرب أولى بهذه الاستثمارات ويستطيع جذبها بشكل أكبر، لكن يجب التحرك بسرعة”.
حماية المستخدمين وضمان الثقة
في جانب آخر، يلفت الخبير المغربي إلى أهمية توعية المواطنين بمزايا ومخاطر العملات الرقمية، تجنباً لعمليات الاحتيال أو المضاربات غير القانونية.
ويدعو الدولة إلى أن تكون الضامن والحامي للمشاريع المرخصة، وسنّ قوانين دقيقة تضبط الإشهار والتعاملات لحماية المستهلك.
كما يؤكد على ضرورة دمج المالية التقليدية بالمالية الرقمية، من خلال السماح باستخدام العملات الرقمية في المعاملات اليومية، بما يحولها من أداة مضاربة إلى قيمة اقتصادية منتجة داخل السوق المحلية.
نحو إدماج حقيقي في الاقتصاد الوطني
ويختم بلاج بالتأكيد على أن نجاح المغرب في هذه الخطوة لن يتحقق بمجرد سنّ القوانين، بل يتطلب رؤية متكاملة تقوم على الإطار القانوني، والقدرات البشرية، والبنية التقنية، والاستراتيجية الاقتصادية.
ويقول: “المغرب يمتلك المقومات المالية والتقنية ليكون فاعلاً أساسياً في الاقتصاد الرقمي الجديد، لكن نجاح التجربة يتوقف على السرعة في التشريع، وحماية المستهلك، واستثمار الذكاء والكفاءات المغربية بدل هدرها في الخارج.”