اقتصادكم - أسامة الداودي
تُعد المسيرة الخضراء إحدى أبهى صفحات التاريخ المغربي الحديث، إذ لم تكن مجرد حدث سياسي لاسترجاع الأقاليم الجنوبية، بل ملحمة وطنية جسدت عبقرية القيادة المغربية والتلاحم الشعبي العميق بين العرش والشعب، لتصبح رمزاً للوحدة، والإيمان الجماعي بعدالة القضية الوطنية.
وبعد مرور نحو نصف قرن على حدث "المسيرة"، ما تزال هذه الملحمة تشكل مرجعاً في الخطاب الوطني المغربي، ومصدراً لإلهام الأجيال الجديدة بقيم الانتماء والوحدة.
المسيرة كتحول في مفهوم الوطنية المغربية
وأكد أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة القاضي عياض بمراكش، الحبيب استاتي زين الدين، أن المسيرة الخضراء لم تكن مجرد مبادرة سياسية لاسترجاع الأقاليم الجنوبية، بل كانت تجسيداً لروح الأمة المغربية حين تتوحد حول قضية وجودية.
وذكر الحبيب استاتي زين الدين، في تصريح لموقع "اقتصادكم"، أن "الملك الراحل الحسن الثاني، حوّل التحدي السياسي إلى حدث تعبوي جامع، من خلال خطابه التاريخي في 16 أكتوبر 1975 الذي دعا فيه المغاربة إلى استرجاع أرضهم سلمياً".
وتابع أن "تلك اللحظة أعادت تعريف الوطنية المغربية، باعتبارها فعلا جماعياً مؤسسا على الإيمان والسلم لا على العنف، وهو ما جعل المسيرة تتحول إلى ملحمة وطنية خالدة في الوجدان المغربي".
وشدد استاتي على أن الواجب اليوم هو ربط الشباب المغربي بهذا الوعي التاريخي، لأن الوطنية ليست ترفاً بل مسؤولية معرفية وأخلاقية يجب أن تترسخ في التعليم والإعلام والثقافة.
تعبئة شعبية فريدة أكدت التلاحم بين العرش والشعب
وفي سياق متصل، أبرز استاتي أن نجاح المغرب في تعبئة أكثر من 350 ألف متطوع ومتطوعة للمسيرة الخضراء في وقت قياسي، يعكس الثقة العميقة التي جمعت العرش بالشعب المغربي، موضحا أن تلك التعبئة لم تكن نتاج دعاية أو ضغط سياسي، بل ثمرة علاقة روحية قائمة على البيعة والولاء، حيث دعا الحسن الثاني أبناء وطنه بصفته رمزاً للوحدة.
واسترسل قائلا إن تلك اللحظة رسّخت وعيا جماعياً ما زال يلهم الحاضر المغربي، لأن روح المسيرة هي ذاتها التي توحد المغاربة اليوم حول التنمية والسيادة في ظل قيادة الملك محمد السادس.
وسجل المتحدث ذاته أن "التحدي الحقيقي هو نقل هذه الروح إلى الأجيال الجديدة، لتدرك أن الوطن ليس مجرد هوية بل التزام ومسؤولية جماعية".
التحول الدبلوماسي وتثبيت السيادة المغربية
وأضاف أستاذ العلوم السياسية أن المسيرة الخضراء كانت نقطة تحول في مسار الدبلوماسية المغربية، إذ أبرزت قدرة المغرب على الدفاع عن حقوقه التاريخية بالحجة والقانون والإجماع الشعبي.
كما أكد أن القرار الأممي رقم 2797 الصادر في 30 أكتوبر 2025 مثل تتويجاً لهذا المسار، بعدما اعتبر مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحل الواقعي والنهائي للنزاع الإقليمي حول الصحراء.
واستشهد في هذا الإطار بالخطاب الملكي الذي وصف المرحلة بأنها فاصلة في تاريخ المغرب، معلناً بداية “زمن المغرب الموحّد من طنجة إلى الكويرة”.
وأبان استاتي أن هذا التحول يعكس انتقال المغرب من منطق التدبير إلى منطق التغيير، وترسيخ سيادته الكاملة على أقاليمه الجنوبية باعتراف دولي واسع.
وبيّن أن هذا التتويج الدبلوماسي جاء ثمرة رؤية ملكية متوازنة، قائمة على الحزم في السيادة والانفتاح في الموقف، مذكّراً بتأكيد الملك محمد السادس أن المغرب لا يسعى إلى انتصار على أحد، بل إلى حل يضمن الكرامة للجميع.
واعتبر أن إعلان الملك محمد السادس يوم 31 أكتوبر عيداً للوحدة الوطنية يرمز إلى استمرار روح المسيرة الخضراء في صيغة معاصرة، تجعل من الوحدة الترابية منطلقاً لمشروع وطني شامل يقوم على التنمية والسيادة المشتركة.
المسيرة الخضراء.. الوطن كقيمة إنسانية مشتركة
وتابع الحبيب استاتي زين الدين أن المسيرة الخضراء لم تعد مجرد ذكرى وطنية بل أصبحت منظومة قيم حية تؤطر علاقة المغاربة بوطنهم وملكهم، مذكراً بأن الملك محمد السادس قال في أكثر من مناسبة إن “المسيرة لم تنته بعد”، في إشارة إلى أن المغرب يعيش اليوم مرحلة استكمال المسيرة عبر التنمية والتحديث.
وأكد أن الوحدة الترابية تحققت بالفعل السياسي، بينما تتعمق الوحدة الوطنية اليوم عبر مشاريع التنمية في الأقاليم الجنوبية والرؤية الإفريقية للمغرب.
كما استطرد أستاذ العلوم السياسية قائلا "إن الاحتفاء بالوطن لا ينبغي أن يظل مجرد تقليد رمزي، بل يجب أن يكون وعيا حيا متجددا"، مضيفا أن تعليم التاريخ الوطني للشباب وترسيخ قيم المواطنة الفاعلة يمثلان الضمان الحقيقي لاستمرار روح المسيرة.
وأشار إلى أن المرحلة التي يعيشها المغرب بعد 31 أكتوبر 2025 تشبه لحظة توحيد جديدة، إذ تتجسد السيادة في كل المجالات، وتتعزز مكانة المغرب كقوة إقليمية صاعدة.
وختم استاتي زين الدين تصريحاته بالتأكيد بأن جوهر المسيرة الخضراء كان إنسانياً بقدر ما هو سياسي، لأن المغرب دعا إلى تحرير الأرض بالسلم لا بالحرب، وهو اليوم يمد يده مجدداً لبناء المستقبل المشترك مع كل أبنائه، معتبرا أن ما بعد 31 أكتوبر 2025 يجب أن يكون عنواناً لـ”مسيرة بيضاء للقلوب” تجمع المغاربة كافة، بما فيهم إخوانهم في مخيمات تندوف، في إطار الحكم الذاتي والوحدة والكرامة.
"فهكذا تكتمل دائرة التاريخ: من مسيرة خضراء لاسترجاع الأرض، إلى مسيرة إنسانية لترميم الذاكرة وبناء المستقبل" على حد تعبيره.